العقوبات الأميركية على إيران معركة عالمية

العقوبات الأميركية على إيران معركة عالمية

14 نوفمبر 2018
+ الخط -
مع إعلان الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، يوم 8 مايو/ أيار 2018، قراره الانسحاب من "خطة العمل الشاملة المشتركة"، أو ما شاع تسميته "الاتفاق النووي الإيراني"، وخطته لإعادة فرض العقوبات على إيران، ما لم تنصَع لمطلبه العودة إلى التفاوض على اتفاق جديد، مع هذا الإعلان، دخل العالم، دولُه المؤثّرة خصوصا، في سجال على خلفية عدم شرعية مد قرارات مؤسساتٍ وطنيةٍ لدولة ما خارج حدودها، في ضوء إعلان الإدارة الأميركية أن الدول والشركات التي ستتعامل مع إيران ستكون هدفاً للعقوبات من مكتب مراقبة الأصول الأجنبية التابع لوزارة الخزانة الأميركية. وسمحت للدول ببيع الغذاء والدواء لإيران، في رسالة مباشرة إلى الداخل الإيراني، لإجهاض حجة النظام إن العقوبات تستهدف الشعب وليس النظام.
فرضت العقوبات على مرحلتين، حزمة أولى في أغسطس/ آب الماضي، استهدفت القطاعات الاقتصادية غير النفطية: التعامل بالدولار، إجراء صفقات كبيرة بالريال الإيراني، التعاملات التي تخصّ سندات ديون سيادية لإيران، تجارة الذهب والفضة والمعادن الثمينة، منع توريد معادن محدّدة (الجرافيت والفحم والألومنيوم والصلب). وحزمة ثانية يوم 5 نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري، استهدفت النفط والبتروكيماويات، حيث يعتمد الاقتصاد الإيراني على عائدات قطاع الطاقة بنسبة 60%، الموانئ الإيرانية، والخطوط الملاحية، والصناعات الملاحية، تزويد إيران بخدمات التأمين. وشملت القائمة، وفق وزير الخارجية الأميركي، مايك بومبيو، أكثر من سبعمائة شخصية طبيعية ووكالات وطائرات وسفن إيرانية، منها 50 بنكا إيرانيا وفروعها، وأكثر من مائتي شخصية وسفينة؛ إضافة إلى شركة الطيران الوطنية الإيرانية (67 من طائراتها). وقد أعلن أن هدف الحزمة الثانية منع تصدير النفط الإيراني بالكامل (إيران تمتلك 9% من الاحتياطي النفطي، و18% من احتياطي الغاز الطبيعي. وتبلغ احتياطياتها المؤكدة من النفط 155 مليار برميل). وحذَّرت شبكة سويفت للتحويلات المالية، وهي جمعية عالمية، بأنها ستخضع لعقوباتٍ إذا قدّمت خدمات مراسلة مالية للمؤسسات المالية الإيرانية الخاضعة للعقوبات، ما دفعها إلى قطع خدمتها عن مصارف إيرانية.

فتحت العقوبات مواجهات بين الولايات المتحدة وأكثر من دولة ومجموعة دولية، وأطلقت تحرّكاتٍ إقليمية ودولية لاحتواء العقوبات، وتلافى انعكاساتها السياسية والاقتصادية، فإيران، المستهدف الأول من هذه العقوبات، انخرطت في ترتيبات وإجراءات داخلية وخارجية، بالاستناد إلى رؤية قائمة على ركيزتين. الأولى عدم الرضوخ للإجراء الأميركي؛ وثانية عدم الاعتماد على الخارج في هذه المواجهة، وتفعيل ما تسميه "الاقتصاد المقاوم"، الاستعاضة عن الواردات بالمنتجات المحلية، وتفضيل الاستثمار المحلي على الاستثمار الأجنبي، في سعي إلى الحد من اعتماد إيران على الاقتصاد الغربي، وتقوية مرونتها وقدرتها على المقاومة في مواجهة العقوبات الدولية، والعمل على تحقيق الاكتفاء الذاتي في معظم القطاعات، علما أن تنفيذ خطة الاكتفاء الذاتي عادت عليها بنتائج سلبية: استنزاف الموارد الداخلية، خصوصا المياه، حيث تواترت خسارة الموارد المائية، وحل الجفاف في أكثر من منطقة، ما انعكس سلبا على الإنتاج الزراعي والفلاحين، وقف التداول بالعملات الأجنبية داخل البلاد، حظرت على أي فرد حيازة عملات أجنبية أكثر من 10 آلاف يورو (12 ألف دولار). ورفض مجلس صيانة الدستور، الذي يسيطر عليه المتشدّدون، مشروع قانون انضمام إيران إلى اتفاقية مكافحة تمويل الإرهاب (CFT) الذي وافق عليه مجلس الشورى الإسلامي (البرلمان)، على الرغم من ضرورته للحفاظ على الروابط التجارية والمصرفية مع العالم.
ولوّحت طهران بردود مباشرة عبر إغلاق مضيق هرمز، وتطوير برنامجها الصاروخي بزيادة مدى صواريخها، وعرقلت تشكيل وزارةٍ لبنانيةٍ، ووضعت عصيا في دواليب حكومة عادل عبد المهدي في العراق. وحرّكت قوىً سياسيةً وعشائرية عربية ضد الوجود الأميركي شرق الفرات؛ مستغلةً استياءهم منها لتحالفها مع حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي وجناحه العسكري وحدات حماية الشعب، لتوريط القوات الأميركية في وضعٍ أمني شبيه بالوضع في العراق بعد الغزو الأميركي عام 2003. كما حرّكت أذرعها في العراق واليمن وغزة وأفغانستان؛ لتحويل الوجود العسكري الأميركي في المنطقة إلى عبء، لردع واشنطن. ناهيك عن تسريعها تعزيز مواقعها في محافظتي درعا والسويداء، قرب الحدود مع الجولان السوري المحتل، عبر إشراف حزب الله على تدريب دوراتٍ لجيش النظام، وتجنيده شبابا سوريين من أبناء المحافظتين في صفوفه؛ على أمل استدراج عروض، والانخراط في مساوماتٍ تخفف عنها ضغوط واشنطن وعقوباتها. ووثقت تعاونها مع روسيا والصين وضغطت على دول الاتحاد الأوروبي، لتقديم عروضٍ تعوّضها عن خسائرها نتيجة هذه العقوبات. وهذا كله مع تبنّي استراتيجية "انتظر لنرَ"، علها تتخلص من الضغط الأميركي عبر الانتخابات النصفية أو الانتخابات الرئاسية عام 2020.
رفض الاتحاد الأوروبي قرار الإدارة الأميركية الانسحاب من الاتفاق النووي، واعتبره مضرّا بمصالح دوله، ورفض الانخراط في العقوبات الأميركية؛ وقام بتعديل قانون الحصانة الصادر في 1996، والذي يهدف إلى حماية شركات الاتحاد الأوروبي "ضد آثار تطبيق التشريعات خارج نطاق الدولة، والتي يعتمدها بلد ثالث، وأي إجراءات تستند إليها أو تنتج عنها". ويسمح هذا النظام الأساسي للشركات الأوروبية بطلب تعويض عن الأضرار الناجمة عن العقوبات الأميركية. ويسمح بفرض غرامات ضد الشركات الأوروبية التي تنفذ هذه العقوبات من دون الحصول على موافقة المفوضية الأوروبية. وقد قرّرت المملكة المتحدة وفرنسا وألمانيا الاحتفاظ بتجارتها مع إيران؛ وتأسيس "هيئة ذات أغراضٍ خاصة" لتجنب العقوبات الأميركية، تعمل، بشكل أساسي، كشركة محاسبة، تتعقب الائتمانات الخاصة بالواردات والصادرات الإيرانية، من دون تدخل المصارف التجارية أو المركزية الأوروبية، لمساعدة شركات دول الاتحاد الأوروبي، المنخرطة في الأعمال التجارية مع إيران على تحاشي العقوبات الأميركية بإخراج النظام المالي العالمي من المعادلة، وذلك لإنقاذ قطاع الطاقة الإيراني من العقوبات الأميركية، وتوفير شريان حياة للاتفاق النووي ببقاء إيران فيه. وهذا موقفٌ دقيقٌ وخطر لما ينطوي عليه من تحويل خلافٍ حاد حول قضية واحدة (إيران) إلى افتراق استراتيجي كامل مع الولايات المتحدة. ضغطت، في الوقت نفسه، على إيران في قضيتين مهمتين: برنامج الصواريخ، والتوقيع على اتفاقية مكافحة تمويل الإرهاب، علها تخفّف من تصلب واشنطن إزاء عدم التزامها بالعقوبات على إيران.
رفضت روسيا والصين قرار الإدارة الأميركية الانسحاب من الاتفاق؛ ورفضتا الالتزام بالعقوبات الأميركية الجديدة، وقرّرتا الاقتداء بالاتحاد الأوروبي، وتشكيل هيئات خاصة للتعامل التجاري والمالي مع إيران، في تحدٍّ مباشر وصريح للهيمنة الأميركية على حركة الأموال والتحويلات المصرفية، وإجراء تبادلٍ تجاري مع إيران بالعملة الوطنية. الهند وتركيا تبنتا التوجه نفسه، مع أن الشركات الروسية والصينية سحبت بعض استثماراتها من القطاع النفطي الإيراني تفادياً للعقوبات الأميركية.

وتركزت المواجهة الأميركية الإيرانية في منع إيران من تصدير نفطها لحرمانها من العائدات المالية الضخمة، بلغت في العام الماضي 52 مليار دولار، التي تساعدها على الاستمرار في تمويل برنامجها الصاروخي، وتمويل المليشيات التابعة لها، تدور رحاها في الأسواق الآسيوية، حيث يذهب الجزء الأكبر من الصادرات النفطية الإيرانية، تستورد الدول الآسيوية 70% من النفط الإيراني، ثم تأتي دول الاتحاد الأوروبي بنسبة 20%، الصين في مقدمة المستوردين الآسيويين. وقد قادت العقوبات الأميركية إلى تراجع صادرات إيران من النفط من 2.5 مليون إلى 1.5 مليون برميل يومياً، إعفاء واشنطن ثماني دول، هي الصين والهند واليابان وكوريا الجنوبية وتايوان وتركيا واليونان وإيطاليا، من الالتزام بالعقوبات ضمن فترة سماح مدتها ستة أشهر، مرتبط بحسابات تتعلق بسوق النفط، وليس كما ذهبت قراءات كثيرة اعتبرتها محاولة لامتصاص ردات فعل دولية، لا ترى العقوبات عملا مشروعا، جاء للإبقاء على سعر مناسب لبرميل النفط، كي لا تحقق إيران إيراداتٍ من ارتفاعه توازي خسارتها من تراجع حصتها في سوقه؛ وهذا يفسر محدودية فترة السماح حتى تتوفر، عبر بدائل، كميات النفط التي سيخسرها السوق، نتيجة محاصرة نفط إيران. وقد ضخّت روسيا الشهر الماضي 390 ألف برميل نفط إضافي يومياً، تلبية لطلب الرئيس الأميركي. ويسعى التيار المحافظ في الحزب الجمهوري إلى دفع البيت الأبيض إلى عدم التراخي في قضية الاستثناءات للدول الحليفة، أو في عدم إقصاء إيران عن نظام "سويفت"، ردا على قرار البيت الأبيض السماح لإيران باستخدامه في المعاملات الإنسانية، فقد اعتبروا في ذلك ثغراتٍ في العقوبات، يمكن أن يستفيد منها النظام الإيراني.