من جرائم 2018

من جرائم 2018

12 نوفمبر 2018
+ الخط -
يطيب لبعضهم أن يتصوّر أن العالم ما دام قد بلغ من التقدم العلمي والتقني، ومن التطور في مجالات الحياة ما بلغ، أننا لن نجد أنفسنا أمام حالاتٍ وقضايا شهدها العالم في فترات سابقة، قد تصل إلى قرون، لكن العالم ما زال يفاجئنا بمقدار التوحش والبربرية واختلال التوازن وانعدام العدالة، ما يجعلنا نتصوّر أننا ما زلنا في العصور الوسطى.
لم يتصوّر أحد، مثلا، أن يختفي أشخاص من على وجه الأرض، ونحن في عام 2018، خصوصا أشخاصا من ذوي الأهمية الكبيرة والنفوذ والعلاقات الواسعة، وهي حوادث اختفاء اختلفت مصائرها، ما بين القتل والتقطيع (جمال خاشقجي) والسجن بعد الاختفاء عن الأنظار أياما (رئيس الإنتربول الذي قبض عليه في الصين) أو الاختفاء ببساطة حتى الآن (النائب المصري السابق، مصطفى النجار) أو الظهور في لقطات قصيرة (الأمير عبد العزيز بن فهد الذي اختفى عاما بعد انتقاداتٍ شنّها على ولي العهد السعودي، عبر حسابه على "تويتر").
اللافت أن تلك الحوادث يجمع بينها الغموض الشديد، وكذلك عدم اكتراث أنظمة الحكم في السعودية ومصر والصين بتقديم توضيحاتٍ بشأن اختفاء هؤلاء الأشخاص، إلا بعد أيام من التحقيقات وممارسة الضغوط السياسية والإعلامية، على الرغم من أهمية هؤلاء، سواء في بيئتهم المحلية، مثل عبد العزيز بن فهد، أحد أبرز أفراد العائلة المالكة السعودية، أو في الأوساط الدولية، مثل رئيس الإنتربول. كما تجمع بين تلك الحوادث أساليب غير معروفة عادة في طريقة عمل سلطات الدول، مثل التهديد والاختطاف والابتزاز وإزالة آثار الجريمة، وغيرها من أساليب المنظمات الخارجة على القانون.
لم يتصوّر أحد أيضا أننا سنشهد في عام 2018 حملات اضطهاد واحتجاز لملايين الأشخاص، من دون أن يحرّك العالم ساكنا، لكننا شهدنا ذلك مع الروهينغيا في ميانمار، ومع أقلية الإيغور المسلمة في الصين، ففي الحالتين تعرّضت الأقليتان إلى احتجازٍ في معسكرات اعتقال هائلة، بدون أي خدماتٍ أساسيةٍ أو مساعدة، وهي معسكراتٌ تشبه، في بعض أوجهها، ما كان يقوم به النظام النازي في أثناء الحرب العالمية الثانية، فضلا عن ممارسة الاضطهاد، المتمثل في عمليات القتل اليومي التي انتهت بارتكاب مذابح كبرى في حق الروهينغيا، بدءا من العام الماضي. أما الصين، فقد احتجزت نحو مليون مسلم، بما يشمل الأطفال والنساء، في معسكرات اعتقال سرية، للقيام بما تسمّى "إعادة تعليم" أو "تعديل سلوك" من تصفهم
"متشدّدين" أو "متأثرين بالفكر المتطرف"، ويعني هذا عمليا القيام بعملية غسيل أدمغة لمئات آلاف من البشر لإقناعهم (أو إجبارهم لا فرق) على التخلي عن دينهم ومعتقداتهم لصالح اعتناق المذهب الشيوعي على طريقة الزعيم شي جين بينغ الذي يبدو أنه معجب بمذهب عبادة الفرد الذي أسّس له ماو تسي تونغ، ويريد أن يصبح مثله.
كنا نتصوّر أيضا أن أحدا في العالم لن يموت من الجوع، خصوصا مع تقدم وسائل الاتصال والمواصلات وطرق المساعدات، لكننا فجعنا بمشاهد أطفال اليمن الذين يُقتلون يوميا بسبب المجاعة هناك، إلى درجة أن الأمم المتحدة تقدّر أن طفلا يموت كل عشر دقائق بسبب الجوع.
ولكن بنظرةٍ مدققةٍ في تلك الحوادث، يتضح أنها ليست غريبةً عن زمننا هذا، فالتقدّم العلمي والتكنولوجي لا بد أن يواكبه تقدم آخر في مستوى الإجرام والوحشية، فالشر لم ولن يختفي من على وجه الأرض في أي وقت، فجميع تلك الجرائم الوحشية حدثت وتحدث في سورية يوميا على مدار السنوات السبع الماضية، لكنها حدثت ضد مئات آلاف من البشر وبشكل يكاد يكون روتينيا، الأمر الذي أدّى إلى تعوّد على مثل تلك الأخبار. كما شهدت السنوات الأخيرة انقلاباتٍ عسكريةً، على الرغم من أن بعضهم كان يعتقد أن زمن الانقلابات ولى إلى غير رجعة، كما يشهد العالم صعودا مستمرا للتيارات اليمينية المتطرّفة والفاشية التي تذكّرنا بأنظمةٍ كان مفترضا أن الزمن تجاوزها، بدءا من دول أوروبية وانتهاء بالبرازيل أخيرا، فمن أين أتى هؤلاء المندهشون بالاستغراب الذي يتحدّثون به من وقوع تلك الحوادث في الوقت الحاضر؟ لا تختلف جرائم عام 2018 عن جرائم ما قبلها من الأعوام، لكن الفارق في أننا أصبحنا نعرفها أكبر وأسرع وبالصوت والصورة.
قد يعود الأمر إلى التركيز الإعلامي المكثّف على الحوادث الفردية، وتحويلها قصة درامية استحوذت على اهتمام الجمهور ومشاعرهم، خصوصا قضية خاشقجي التي اجتمعت فيها الإثارة والتشويق، من اختفاءٍ غامضٍ في مكان غير معتاد، إلى مسلسل من التسريبات والأدلة سجلت بالصوت والصورة كل ما ارتكبه فريق الاغتيال، وحتى وجود خطيبته التي أضفت جانبا إنسانيا مهما. لكن نظرة أخرى مدقّقة تخبرنا أن الأمر ليس جديدا، فكم من قصصٍ فرديةٍ استحوذت على اهتمام الجمهور، في مقابل عدم اكتراث الجمهور نفسه بقصص اضطهاد الملايين.
تلك طبيعة البشر التي لن تتغيّر، والمهم أن نتكيّف معها ونتفهم طبيعتها، ولا نستغرب أو نصدم منها، بل نحاول دائما أن نعرض مآسينا ونتحدّث عنها كلما كان ذلك ممكنا، وبالطريقة التي يفهمها ويهتم بها البشر، بدلا من لعنهم واتهامهم بالتجاهل وعدم الإحساس، وصدق من قال "وفاة شخص مأساة؛ ووفاة مليون إحصائية". أما المفارقة في تلك المقولة فإن المصادر تنسبها إلى الزعيم السوفييتي جوزيف ستالين الذي قتل الملايين من البشر! يبدو أن الطغاة يدركون تماما طبيعة البشر، ونحن لم نفعل ذلك بعد.
D90F1793-D016-4B7E-BED2-DFF867B73856
أسامة الرشيدي

صحفي وكاتب مصري، شارك في إنجاز أفلام وحلقات وثائقية عن قضايا مصرية وعربية، وكتب دراسات ومقالات نشرت في مجلات ومواقع إلكترونية.