"للريل وحمد"

"للريل وحمد"

12 نوفمبر 2018

الصحراء في وقت المغيب (لؤي كيالي)

+ الخط -
بسهولةٍ يستطيع نزار حسين، أحد أقدم أصدقائي الزرقاويين، بعث ذكرياتٍ سارّة في نفسي، خصوصاً عندما يتحدّث عن صداقتنا، هو وعدنان وأنا، في مدينة "تنتظر القطار"، ليس ذلك الذي كنا نراه يمر، مرةً، أو اثنتين، في الأسبوع قادماً من سورية، أبعد مكان تصل إليه دواليب هذا القطار التي صدئت من قلة الاستخدام، بل ربما قطار غودو.
ففي تلك الفترة السبعينية الأردنية، لم نكن نعرف الكثير عما يجري من تغيراتٍ في بيت الشعر العربي، فبالكاد كانت تبلغنا أصداء النقاشات الدائرة في بيروت أو القاهرة، لذلك انغرست في ذائقتنا، عميقاً، ذخيرة "الروّاد" الذهبية، تحديداً، السياب.
قد نقرأ قصيدة "المقاومة الفلسطينية"، لكن الترنيمات والاستظهارات تظل لذلك الصوت القادم من جنوب العراق، حاملاً معه شجناً لا يبرح النفوس، مثلما لا يبرح الجوع العراق.
يذكّرني نزار بولعي بالسياب، وتردادي نشيجه الجنوبي، لكنه يبعث في نفسي، من دون أن يدري، صوتاً عراقياً آخر، أكثر شجناً، وتفجراً، وتفجعاً: مظفر النواب. الشاعر الذي عرفناه، في تلك الفترة، من خلال أشرطة سيئة التسجيل، وليس من كتبه، اللهم إلا ما كان يُستنسخ من تلك الأشرطة، ويطبع على أوراقٍ تشبه المنشورات الحزبية. غير أن كتاباً له، أو قصيدة، بالعامية العراقية، تسلّلت إلينا بعنوان "للريل وحمد"، مع معرفةٍ محدودةٍ جداً بشخصه وسيرته، أبرز ما عرفناه من هذه السيرة أنه مناضل شيوعي. وكان هذا يكفي ليجد له مكاناً متقدّماً في سلم قراءتنا واهتماماتنا. لم يطل الوقت، حتى صرت أترنّم بتلك القصيدة الفاتنة التي تتحدّث عن القطار والليل ورائحة الهيل في طريق عودتي إلى البيت، مرغماً، لأن علي أن أجد سقفاً يأوي، ولم يكن هناك سوى بيت العائلة المرميّ وراء سياج معسكر الجيش:
"مرّينا بيكم حمد
واحنا بقطار الليل
وسمعنا دق قهوة
وشمّينا ريحة هيل.
يا ريل صيح بقهر
صيحة عشق يا ريل
هودر هواهم ولك
حدر السنابل قطا.
يا بو محابس شذر،
يلشاد خزامات
يا ريل بالله.. ابغنج
من تجزي بام شامات
ولا تمشي.. مشية هجر..
قلبي بعد ما مات
هودر هواهم،
ولك،
حدر السنابل قطا".
كان معجم هذه القصيدة العامية العراقية صعبا لكثيرين من أصحابي، لكن ليس، تماماً، بالنسبة لي، فهو يطلع من بيئةٍ شبيهةٍ بالبيئة التي عشتها في بيت جدّي، وبدرجة أقل في بيتنا، حيث لا يكون الصباح صباحاً من دون تحميص القهوة على النار ودقّها في المهباج. وتصاعد رائحة الهيل من البكارج النحاسية الكبيرة التي تغلي على النار إلى ما شاء الله. وظللت أعتقد أن هناك خللاً في قصيدة النواب على هذا الصعيد. فالقهوة، عندنا، لا تُدَقُّ ليلاً ولا تُنادي رائحةُ الهيل عابري الطريق لتناول فنجان من "المحبوبة السمرا" إلا في الصباح. القهوة هي مفتتح الصباح، وعلامته الأكيدة، أما قهوة النواب فهي لمناداة القطار المارّ ليلاً، من أمام بيت الحبيب.
كان أسهل علينا، بالطبع، وأكثر جاذبيةً، قراءة قصائده الهجائية الكاسحة واستظهارها لنظم العالم العربي وزعمائه الخرعين الذين لم يقصِّر حيالهم. بالمفردات نفسها التي كنا نأخذها على النواب بين ما نأخذه على شعريته التي تلعب على الجُرح القومي النازف، بل قل على جرح الكرامة الذي لم يلتئم قط، وتنهل من الشارع سبابه وشتائمه.
E7B23353-660D-472F-8CF3-11E46785FF04
أمجد ناصر

شاعر وكاتب وصحفي من الأردن