أن تكون صحفيا بلا عناء

أن تكون صحفيا بلا عناء

12 نوفمبر 2018
+ الخط -
كانت فكرة الصحافة منذ زمن، بالنسبة لي، أشبه بحلم وردي وعالم مثالي يُلح عليّ بالذهاب إليه. إذ لطالما حلمت أن أكون صحافية لاعتبارات عديدة. أولّها، أنك سترتبط بالكتابة دائمًا وأبدا. وثانيها، الصورة الاجتماعية الجيدة التي يكوّنها الناس عنك باعتبارك صحفيا. مضت الأيام ومضيتُ بعيدة عن هذا الحلم الذي حملته معي فترة طويلة وأنا أزيّنه لنفسي.
كنت أجد أن من الصعوبة أن يكون أي شخص صحفيًا، أن تكتب كثيرًا وتعيد تنقيح ما كتبته مرّات كثيرة، ويجب أن تمر بعدة مراحل كي تصِل للقب "صحافي"، بدءًا من الدراسة الجامعية لهذا التخصص ثم فترة التدريب، إلى أن يقرّر أحدهم أن ينشر مقالًا لك، أو تقريرًا صحافيا لتثبت أنك تستحق أن يتم تذييل اسمك نهاية كل كتابة يتم نشرها لك.
اختلف العالم بشكلٍ مخيف، وتغيّرت تصوراتي المثالية عن الصحافة، فالثغرات والتجاوزات والارتزاق الذي كنت أقرأ عنه عن الصحافة في الصحافة نفسها، أصبح أكثر وضوحا بالنسبة لي، كما أصبح هينًا أمام ما نراه اليوم من كوارث صحفية تُنشر أمام الملأ. لقد أصبح من السهل جدًا أن تكون صحفيا، ويُطلب منك تصريحات ومقالات لك ليتم نشرها، بناءً لإعتبارات أخرى، وليس من ضمنها بالطبع أن تكون صحافيًا.
أتاحت شبكة الإنترنت ومواقع التدوين ووسائل التواصل الاجتماعي ما كان صعبًا ومستحيلا في سالف الأيام. الآن، تستطيع أن تصرح وتكتب وتُعلن، تفتح أبوابًا للحرب وتُغلقها، تنشر الشائعات والتفاهات بضغطة زر من دون عناء يُذكر، تُنشئ المدونات والمواقع بمختلف توجهاتها وتكتب، وهنا تجلّت المهزلة بكل أشكالها، وأصبح العالم يغرف من فوضى الكلام بالطريقة التي يريد.
تم امتهان الكتابة من الجميع، الجميع يكتب، الجميع يدوّن ويعرّف نفسه كاتبا لا يشقّٔ له غبار، كلماته نافذة وصانعة قرار ويستطيع الكتابة بأي موقع أراد، حتى لو كانت "واشنطن بوست"، وحتى لو لم تستطع الكتابة، وحتى لو كنت قاتلا وتدعو للسلام، ستُصبح صحافيًا بغمضة عين؛ لأن هناك من أراد ذلك.
تنشطر المبادئ والقيم وتختل الموازين وتتغيّر القوى، تتهشّم هيبة الكاتب أمام الجميع، وربّما سيصبح من الجيد فيما بعد، ألّا تخبر أحدهم أنك كاتب، أو أنك صحافي على وجه التحديد؛ لأنه تمّ تلويث الصحافة بشكل تام وبعناية فائقة.
يتسع كل يوم هذا المستنقع الكبير وتفوح رائحته، فلم يعد مُستغربًا إذن، أن يكتب محمد الحوثي عن السلام والحقوق والحريات وإيقاف الحرب. من المضحك حقًا أن نصِل إلى هذا الخراب، وأن يتم التعامل مع اليمني بهذه العقلية والاستخفاف، في حين يُدرك جيدًا اللعبة التي قد لا ينجو منها إلا عبر سنوات من الدم والضياع والكثير من القتلى.
559B0835-9340-4E8B-B286-62F582C7C98F
559B0835-9340-4E8B-B286-62F582C7C98F
إجلال البيل (اليمن)
إجلال البيل (اليمن)