أوهام المدرسة الإنكليزية

أوهام المدرسة الإنكليزية

10 أكتوبر 2018
+ الخط -
وضع أستاذ السياسة الدولية، أسترالي المولد والنشأة، بريطاني الجنسية هادلي بل (1932-1985)، في العام 1977، كتابه الأكثر شهرة "مجتمع الفوضى" (Anarchical Society)، واعتبر في حينه الإسهام البريطاني الرئيس في حقل العلاقات الدولية، لا بل اعتبر، في ذلك الوقت، أهم اسهام فكري غير أميركي في حقلٍ أميركي النشأة والنزعة والتأثير، إلى درجة أن أطلق على نتاجه الفكري اسم المدرسة الإنكليزية في العلاقات الدولية.
جاء إسهام هادلي بمثابة رد على المدرسة الواقعية بنسخها المختلفة، والتي هيمنت على حقل الدراسات الدولية معظم فترة الحرب الباردة، مع أنه ينطلق منها، ويتفق معها في أكثر مقولاتها الأساسية، خصوصا منها سمة الفوضى التي تطبع النظام الدولي، في غياب سلطةٍ عليا قادرة على ضبطها، وفرض النظام. تنشأ هذه الفوضى أساسًا من سعي الدول، بصورة فردية، إلى ضمان أمنها وتحقيق مصالحها، وتعظيم قوتها على حساب الأعضاء الآخرين في النظام الدولي. لكن هادلي، وهنا إسهامه الكبير، بعكس المنظّرين الآخرين في المدرسة الواقعية، مثل إي هتش كار، ورينولد نيبهور، وهانز مارغنثاو، وكينث والتز وغيرهم، يرى أن العلاقات بين الدول لا تقوم فقط على القوة وتوزّع القدرات، بل أيضا حول مجموعة من القيم، والأعراف، والتقاليد، والمواثيق، والقوانين التي تم تكريسها عبر العصور، وحولت "النظام" الدولي إلى "مجتمع" دولي.
ينشأ المجتمع الدولي، بحسب هادلي، بين دول واعية بوجود قيم مشتركة فيما بينها، وقواعد تحكم علاقاتها ببعضها، وقوانين دولية تنظم سلوكها في أوقات السلم والحرب، وأعراف ومواثيق تسهم في تهذيب سياساتها، يسمح هذا الأمر للدول المتفاوتة في الحجم والقوة والثروات أن تتعايش ضمن هذا المجتمع، ويساعد في إيجاد حالةٍ من التنظيم النسبي في نظام الفوضى.
الصدوع للقانون الدولي المتفق عليه بين الدول، واحترام الأعراف والمواثيق والمعاهدات الدولية، وقواعد الحرب والدبلوماسية، تتمأسس بمرور الوقت (تتحول إلى مؤسسات)، وتتطور إلى "كود" أخلاقي بين الدول، كما الكود الأخلاقي داخل المجتمعات وبين الأفراد، يُنظر إلى الخارج عليه نظرة المارق، إذ يجري نبذه وعزله حتى يعود إلى الالتزام به. يقوم هذا الكود الأخلاقي مقام السلطة المادية الدولية التي تضفي شيئا من التنظيم على فوضى النظام، وتحوله إلى مجتمع.
أول هزة عنيفة تعرّضت لها هذه النظرية جاءت بعد عامين فقط من وضعها، عندما اقتُحمت السفارة الأميركية في طهران، واتخذ موظفوها رهائن في نوفمبر/ تشرين الثاني 1979، في خرقٍ غير مسبوق لقواعد التمثيل الدبلوماسي الدولي، منذ بدأ التوافق عليها في مؤتمر فيينا عام 1815، وتحويلها إلى ميثاق دولي عام 1961. لكن هذه الحادثة اعتبرت حينها استثناءً قامت به حكومة ثورية "غير مسؤولة"، ذلك أن عموم الدول ظلت ملتزمةً بالقوانين والمعاهدات الناظمة للتمثيل الدبلوماسي، وما يتصل بها من احترامٍ لقوانين الدول المضيفة وسيادتها وغير ذلك.
بدأنا، في الفترة الماضية، نشهد خروقاً كبيرة ومتكرّرة، ومن دول مختلفة لهذه القوانين، وخروجا عن الأعراف والتقاليد الدبلوماسية التي توافق عليها "مجتمع" الدول إلى درجةٍ باتت تقوّضها، وتزعزع الثقة بها، إذ ما معنى أن يختفي مواطن راجع قنصلية بلاده للحصول على خدمة قنصلية منها، ليغدو مصيرُه بعد ذلك مجهولاً، كما حصل للصحافي السعودي، جمال خاشقجي؟ وما معنى أن يختفي رئيس منظمة دولية (الشرطة الدولية "الإنتربول")، بمجرد أن تطأ قدماه أرض بلاده، كما حصل للصيني منغ هونغوي. طبعا يمكن للمرء أن يستمر في تعداد الخروق، وضرب الأمثلة عليها، الروسية منها خصوصا والتي غدت نهجًا، لكن النقطة المهمة هنا هي مدى الاستخفاف الذي باتت تتعامل به بعض الدول مع أعرافٍ دبلوماسيةٍ راسخة، وقواعد كان يعتقد أن احترامها مُسلَّمة. هذا الميْل إذا استمر، والخرق إذا اتسع، يمكن أن يهدّد كل منظومة القيم والقواعد والأعراف التي تعارفت عليها الدول، وطوّرتها عبر القرون. إذا سقط هذا الكود الأخلاقي فهذا يعني أننا دخلنا فعليا مرحلة الفوضى المطلقة، وعدنا إلى سبل التعامل البدائي التي سادت في عصور التاريخ الأولى، بعد أن أوهمتنا المدرسة الإنكليزية أننا تجاوزناها... أهلاً بكم إذًا إلى المدارس العربية والروسية والصينية في العلاقات الدولية.