في لُغة الرعاع

في لُغة الرعاع

09 أكتوبر 2018

جوزيف أبي فاضل.. اعتذاره لا يُلغي قباحة ما قاله

+ الخط -
الرعاع، كما جاء في عدد من القواميس ومن بينها قاموس المعجم الوسيط، هم سِفْلة الناس وغوغاؤهم. وقد قيل: اختلط بالرِّعاع فتعلَّم منهم أسوأ الألفاظ. وأسوأ الألفاظ، على ما يُعرف، هو النابي من الكلام، وهو السوقيّ والبذيء، وما يقال في غير موضعه، بهدف التشهير والذمّ والتجريح والطعن والقدح، وكلها عباراتٌ تنمّ عن أذية تذكّر بأذيّة الجسد، بقدر ما تعني الإساءة إلى النفس والمعنويات.
لغة الرعاع تلك لم تعد، للأسف، حكرا على مجتمع الرعاع وحده، ففي بلد كلبنانٍ، عانى ما عاناه من سنوات حرب ٍأهلية، وسِلمٍ مؤجّل إلى ما لا نهاية، وانحطاطٍ وانهياراتٍ متعاقبةٍ طاولت وتطاول كل المجالات، نراها وقد ترقّت طبقيا وصعدت، لتبلغ أعلى المستويات، فبات يلهج بها أهلُ النخب، على اختلافهم، من حكّام ومسؤولين وإداريين وتربويين وأهل علم وثقافة وصحافة، ويتعاطونها ويتحاورون بها في اجتماعاتهم الرسمية، على شاشات التلفزة وموجات الأثير، حتى ليظنّ المستمعُ إليهم أنها، لوفرتها وتفشّيها وحسن تلقّيها وشيوعها، إنما لغة طبيعية دارجة كالتي يتعاطاها نظراؤهم في مختلف البلدان.
هذا ولا بدّ للغة الرعاع حين تصبح لغةً سائدةً مائدة، أن تترافق بوسائل ترهيب وتخويف وملاحقة واقتصاص وكمّ أفواه، لأن ذلك من طبائعها، هي التي لا تحتمل اعتراضا أو نقاشا أو احتجاجا، ولا تقبل إلا التهليل والترويج والهتاف، وكل ما يؤكّد الولاء والمبايعة المطلقة والتوقيع على بياض. ولا بد لها أن تدقّ طبول التغيير، ومحاربة الفساد، وسواها من شعارات - مقولات، طنانة رنانة، توهم بوقعها الكبير ومفعولها الفعّال، في حين أنها قائمةٌ على خواء، مستندة إلى فراغ، ومبنية على عدم.
ومن شيم لغة الرعاع استخدامها فِرقا من أبواق وقوّالين يُغالون في إظهار انحيازهم، من خلال استنباطهم مصطلحاتٍ وعباراتٍ في ما يشبه مباراة كلامية، أو سوق عكاظ، من أجل استخراج الأوصاف الأكثر سوقيةً، والنعوت الأشدّ بذاءة. وهذا ما برعت فيه أسماء عدّة استخدمت البصاق والحذاء والشتائم والعراك بالأيدي، حججا وردودا وسبل إقناع وإفحام. ولقد سُجّل، أخيرا، في هذا المجال، فتحٌ جديد لكاتب ومحلّل سياسيّ لبناني (جوزيف أبي فاضل) قال في مقابلة تلفزيونية أجريت معه، وفي معرض ردّه على نائبة في المجلس النيابي (بولا يعقوبيان) وضعت تعليقا على "تويتر" انتقدت فيه رئيس الجمهورية: "أيرضيها أن نقول إنها "ترضّع الكل"؟
على كلامه هذا، اعترض أهل الإعلام، معتبرين أنه "إساءة ضد المرأة"، وقد كان لافتا جدا أن أحدا من بينهم لم يأتِ على ذكر تعليقه الآخر، التحقيريّ جدا والمسيء لنائبٍ سابقٍ قال عنه بتعالٍ واستهزاء، "الله يساعده"، مستخدما قنوات الغمز واللمز إلى إشاعاتٍ تتناول ميوله الجنسية ومثليته المفترضة.
بشأن جملته المسيئة للنائبة، كتب أبو فاضل نصّ اعتذار وجهّه إلى المرأة اللبنانية وسلّمه وزيرَ الإعلام، وفيه قال: "بعد الملابسات التي أثارها كلامي، عبر محطة أو تي في، ومنعاً لأي سوء فهم، أو سوء نيات، يهمني التأكيد أنني أكنّ كل الاحترام والتقدير للمرأة، وأحرص على كرامتها وسمعتها، وهي التي تشكّل نصف المجتمع وصمام الأمان له. عليه، وقطعا لدابر الاستغلال، فإنني أملك شجاعة الاعتذار من أي امرأةٍ شعرت بأن كلامي جرحها أو أساء إليها، وآمل في أن يطوي هذا التوضيح كل ما سبق". وبهذا يكون قد اعتذر للمرأة عامة، وليس لبولا بالذات.
لا تدرك لغةُ الرعاع أن الاعتذار، وإن كان واجبا ومحمودا، لا يُلغي ولا يُخفي البتّة قباحة ما قيل وسفاهته، لأن ما قيل سيبقى منقوشا أبدا في قاموسها، ولن يقدر عليه، أو على محوه، أيُّ تبرير أو اعتذار.
نجوى بركات
نجوى بركات
كاتبة وروائية لبنانية ومؤسسة محترف "كيف تكتب رواية"