حاشية في مسألة خاشقجي

حاشية في مسألة خاشقجي

08 أكتوبر 2018
+ الخط -
صار محسوما أن مظاهر التمدين والتحديث في بلادنا العربية، كما مستويات التعليم العالي لدى كثيرين منا، وكذا احتكاكهم بالعالم، ليست بالضرورة علامات تطوّر يحدثُ في الوعي العام، ولا هي دلائل على تحضّرٍ وتقدّمٍ اجتماعيٍّ ونهوضٍ ثقافي ومعرفي. تتراكم وقائع يوميا، في غير بلدٍ عربي، تدل على أن الأمر ليس كذلك أبدا، بل في الوسع القول، ومن دون تحرّزٍ كثير، إن مستوى الأخلاق في المجتمعات العربية، في عقود ما قبل الطفرات العمرانية واتساع التعليم العالي، كان أرفعَ مما هو عليه راهنا. ومن دون أي تحوّطٍ، لا حرج في الجزم إن منسوب حضور الثقافة الحاراتية والعصبيات إيّاها ومرجلات الزعرنة، وكذا التشدّد الأصولي والتخلف في فهم الدين، ومظاهر أخرى تشبه هذه، هو حاليا أعلى منه في الستينيات والخمسينيات مثلا، من دون أن يعني هذا الكلام أننا، مجتمعاتٍ وأفرادا، كنّا، في ذينك العقديْن، ملائكةً وأطهارا. 

مناسبة هذه الحاشية، والتي لا يخفى ميلٌ انفعاليٌّ فيها، محنةُ الكاتب السعودي، جمال خاشقجي، أو ربما محنتنا أخلاقيا في غضون واقعة اختفاء الرجل في إسطنبول. مريعٌ جدا أن يكون بين ظهرانينا، نحن العرب، مثقفون وإعلاميون وناشطون، لا يعثرون في هذه الجائحة على أي شأن إنساني أو حقوقي، ويصنعون منها مادةً للت والعجن، والكلام الكاريكاتيري والسخيف، عن إعلام إخواني وقطري، وتدبير تركي، واستهدافٍ لمشروع محمد بن سلمان (؟!). ولو أن ثرثارين أميين، أو قليلي التعليم، وغير عارفين بالدنيا، استرسلوا في خراريف مثل هذه، أمام المصاطب وفي المقاهي، لهان الأمر، ولكن مشتغلين في الإعلام، وذوي مسؤولياتٍ، وبعضُهم يقيم في عواصم الغرب، ويحملون شهاداتٍ رفيعةً، وآخرين ناشطين منتخبين في تجمعاتٍ نقابيةٍ وتمثيلية، ضنّوا على جمال خاشقجي بأي مشاعر رفيعة، تتمنّى له السلامة والأمن والأمان، وحتى في أثناء تواتر أنباءٍ عن نهايةٍ مأساويةٍ للرجل، ما زال مأمولا أن تكون غير صحيحة، آثروا استعراض محطّاتٍ مهنيةٍ في عمل الصحافي السعودي، وكأنهم يشحطون الذئب من ذيله، من دون أدنى احترامٍ للحظة الخاصة التي يلتبس فيها حال زميلنا المحترم، فذهبوا إلى تعييره بعمله، في سنواتٍ مضت، مستشارا لدبلوماسيٍّ سعودي، وكأن هؤلاء كانوا ضفادع بشرية في عملياتٍ فدائية باغتوا فيها أعداء الأمة. وفي تعريضهم بخاشقجي، والذي لم يتخفّف يوما من حرصِه على بلده، جاءوا على تجربته صحافيا، وهم في جهلٍ ثقيلٍ بشأنها، مُتعبين بأرطالٍ من ثقافة الارتياب والنميمة والشّبهة، تضغط على أفهامهم ومداركهم، ودائما مع انحطاطٍ أخلاقيٍّ مروّع.
وإلى هذا الذي يجوز تسميتُه انتحارا أخلاقيا لدى هؤلاء الناس، غير القليلين، والحاضرين في مواقع إعلامية وثقافية ومجتمعية وحزبية، مثّل تعامي مؤسساتٍ إعلامية، كبرى وصغرى، في السعودية والإمارات، عن قضية زميلنا المغيّب في إسطنبول، وتجاهل وجود شخص اسمُه جمال خاشقجي في العالم، مثّلا ابتذالا ليس فقط لمهنة الإعلام، وإنما أيضا لقيمة العقل، سيما في زمن ثورة الميديا الرقمية المهولة. وواقعةٌ كاشفةٌ، وغزيرة الإحالات، أن تذهب سيدة إماراتية، تولّت، في سنوات مضت، إدارة ناد للصحافة في بلدها، إلى أن قصة خاشقجي كلها ملعوبٌ إخواني، وإن "واشنطن بوست" صحيفةٌ تموّلها، بطريقة غير مباشرة، دولة قطر. لا يمكن استقبال زعمها البائس هذا بتنكيتٍ وتسخيفٍ فحسب، وإنما باعتباره مقطعا في حالة استقطابٍ في مناخ الكراهية الأسود الذي يستقيل العقل في غضونه، المناخ الذي أحدثَه من أحدثوه مع اندلاع عملية حصار قطر ومقاطعتها. وكان يُمكن أن يمرّ سخفُ السيدة هذه بالتجاهل الذي يليق به، لولا أنه اتّسق مع موجةٍ فادحةٍ أرادت إشاحة الأبصار عن اختفاء زميلنا إلى استهداف قطر وإعلامها، ضجّت به السوشيال ميديا. 
إذن، واقعة جمال خاشقجي المتمنّى، بعد حديث الرئيس التركي، أردوغان، عن أخبار إيجابية يتوقعها بشأنه، أن تنتهي بنجاتِه من أي مكروه، هذه الواقعة بما واكبها من توظيفاتٍ واستخداماتٍ إعلامية، وبما وازاها من انعدام الحسّ الأخلاقي لدى كثيرين، تصلُح لدرسٍ تحليليّ، سيُسعفنا في معرفتِنا أنفسَنا أكثر، سيّما القبيح القبيح فينا.
358705DE-EDC9-4CED-A9C8-050C13BD6EE1
معن البياري
كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965. رئيس قسم الرأي في "العربي الجديد".