محاذير مشروع "الناتو العربي"

محاذير مشروع "الناتو العربي"

06 أكتوبر 2018
+ الخط -
يعود الحديث عن تحالف خليجي وعربي مع الولايات المتحدة على الأقل إلى بداية تسلم الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، سلطاته الدستورية مطلع العام 2017، وقد تجدّد الحديث عن هذا المشروع في الأسابيع القليلة الماضية، ومن مصادر أميركية بالذات، من دون أن يضفي هذا الحديث زخماً على هذا المشروع. فما يتم الحديث عنه خطوطٌ عريضةٌ وتوجهاتٌ عامةٌ حتى مع اقترانه بتفاصيل ذات طابع عسكري. ذلك أن المشروع يحمل صفة حلف، وقد سمي أميركيا "نسخةً عربية من حلف الناتو" إلى جانب تسميته "تحالف الشرق الأوسط الاستراتيجي"، بما يجعله خياراً سياسياً استراتيجياً. وواقع الحال أن دول المنطقة الخليجية، على الرغم من علاقاتها الوثيقة تاريخياً مع الولايات المتحدة، إلا أنها ظلت تنأى بنفسها عن الانضواء في المحاور والأحلاف الدولية، وذلك لما للأمر من أبعاد سياسية وأمنية وثقافية، وهذا من دون نفي الحاجة الماسّة لمواجهة التحدي الإيراني المتفاقم، وتأمين مظلة دولية لهذه المواجهة.
في ذروة الحرب الباردة بين المعسكرين، الشيوعي والغربي، وعلى الرغم من الروابط القوية بين دول الخليج وأميركا، فإن هذه الدول لم تضع نفسها في عداد الناتو (حلف شمال الأطلسي). ولئن كان من الصحيح أن الإمكانات الذاتية، وعديد الجيوش والبنى التحتية لم تكن تسمح آنذاك بالارتباط بحلف عسكري في مواجهة قوة كبرى (الاتحاد السوفياتي آنذاك ومنظومة دول أوروبا الشرقية)، إلا أن الطموحات لبناء قوة عربية وإسلامية كانت هي الغالبة على الخطاب والتوجّه السياسي الخليجي، وكانت هذه الدول ترى في منظومة عدم الانحياز أفضل مظلة "أيديولوجية" لها على الساحة الدولية.
وفي ضوء ما تتّسم به إدارة ترامب من سلوكٍ لا يخلو من ارتجال، فإن هناك خشية صامتة من أن تتحمّل دول الخليج أعباء مالية وسياسية، ناجمة عن هذا المشروع من دون أن يحقّق النتيجة المرجوة في كبح إيران، ففي غمرة الحديث عن هذا المشروع من مصادر أميركية، كما نقلت غير مرة وكالة رويترز، فقد تمّت الإشارة إلى لقاء قمة تقرر عقده مبدئيا في واشنطن 12 و13 أكتوبر/ تشرين الأول الحالي، وليس هناك ما يدلّ على هذا الانعقاد الوشيك للقاء قمة، في وقتٍ لا يتوانى ترامب عن إطلاق تصريحات مسيئة.
وتبرز خشيةٌ أخرى من أن يؤدّي الإعلان عن هذا الحلف المزمع إلى حالةٍ تشبه الاستقطاب 
الدولي، كأن تعلن روسيا وقوفها إلى جانب إيران في مواجهة هذا التطور، فما زالت موسكو تجد في طهران حليفا لها. وقبل أيام، كان الرئيس فلاديمير بوتين يتحدّث عن أن ارتفاع أسعار النفط عالميا، في الآونة الأخيرة، يعود إلى العقوبات الأميركية على إيران. وتعارض روسيا هذه العقوبات. وبالقياس إلى هذه المعارضة، من المنتظر ألّا تقف موسكو موقف المراقب الصامت إزاء مشروع الحلف. أما بكين فعلى الرغم من سياسة النأي بالنفس عن الانغماس المباشر في صراعات المنطقة، فإنها تجد نفسها على الدوام في موقف معارض السياسات الأميركية.
يُضاف إلى ما تقدّم أن مشروع الحلف يبدو متعارضا مع توجهات ترامب وشعاره "أميركا أولا"، فأميركا لا تخوض أية مواجهة مع إيران في العراق وسورية، فكيف يجتمع تضييق رقعة المواجهة مع إيران وتوسيعها في آن واحد؟
يستذكر المرء بهذه المناسبة إعلان حلف بغداد عام 1955 لمواجهة "المد الشيوعي"، ضم آنذاك بريطانيا والعراق وتركيا وإيران وباكستان. كانت الولايات المتحدة وراء إنشاء هذا الحلف (وزير الخارجية جون فوستر دلاس كان من أشد مؤيديه)، لكنها لم تنضم إليه سوى بعد مضي أربع سنوات، حين أخذ الحلف يهتز بخروج العراق منه بعد انقلاب عام 1958. وبعد أن أدت السياسات الأميركية القاصرة إلى تقارب كل من مصر وسورية والعراق آنذاك مع الاتحاد السوفياتي. باستثناء العراق، لم تنضم أية دولة عربية إلى الحلف الفاشل الذي لم يفد أعضاءه بشيء، إذ لم يمنع حربين بين باكستان والهند عامي 1965و1971، ولم يمنع سقوط النظام الملكي في بغداد عام 1958، ولا سقوط نظام الشاه عام 1979.
تغيّرت الظروف الآن واختلفت، وثمّة حاجةٌ موضوعية للتعامل مع التحدّي الإيراني الذي يهدّد دول الخليج وغيرها. ويبدو ترامب حازما في توجهاته ضد إيران. لكن كيف يمكن أن يتسم الحديث عن حلف استراتيجي بالجدّية، فيما لا يكفّ ترامب عن الحديث عن المال، ما يؤشّر إلى الأولويات العميقة لديه؟ وعلاوة على هذا، هيأ ترامب بيئةً غير مواتية لهذا التطور، فقد زاد من مخاطر التحدي الإسرائيلي نتيجة منحه الاحتلال الإسرائيلي أكثر مما يطلب، فكيف تمكن تغذية المخاطر وإغلاق أبواب السلام هنا، ومواجهة التحدّي هناك؟ لن يثق الرأي العام العربي، وبدرجة أقل ربما الرأي العام الخليجي، في سياسة ترامب المتضاربة هذه، إذ لا يمكن إشعال النار وإطفاؤها في الوقت نفسه. ولا يمكن أن يؤدّي تسعير المعضلة الفلسطينية - الإسرائيلية وتعقيدها، كما فعل ترامب وأركان إدارته، سوى إلى الشكوك العميقة في مجمل السياسات الأميركية في المنطقة. وليس الغرض من هذه الإشارة الربط الميكانيكي بين التحديات الخارجية التي تهدّد دول المنطقة وشعوبها، أو الدعوة إلى مواجهة هذه التحدّيات معاً ودفعة واحدة (على الرغم من أن هذا الطموح مشروع ووجيه وصائب)، إذ ينعقد القصد حول التأشير إلى لاعقلانية السياسة الأميركية التي ترى، عملياً، أن تأجيج صراع ٍهنا لا بد منه، ويفيد في مواجهة الصراع هناك!
وعليه، لا تبدو الظروف والمقدّمات السياسية ناضجةً لهذا المشروع الذي تحفّ به المحاذير، 
على الرغم مما يكتسبه التحدّي الإيراني من جسامة، ما يُملي البحث عن توفير منظوماتٍ أمنيةٍ ودفاعية لدول الخليج قادرة على مواجهة التحدّي تضاف إلى ما توفره القواعد الأميركية والغربية في المنطقة، وإلى ما ينجم من تفاعلاتٍ عن سياسة العقوبات، بما فيها الحلقة التالية في نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل من هذه العقوبات، والقاضية بمقاطعة استيراد النفط والغاز الإيراني، وبما يرفع كلفة التدخلات الإيرانية في المنطقة بالحدّ من الشريان المالي الرئيسي الذي يغذّي هذه التدخلات.
وقصارى القول هنا إن توثيق العلاقات الدفاعية وتطويرها، بما يعزّز الأمن الذاتي لدول المنطقة، لا يقتضيان بالضرورة إنشاء حلفٍ قد لا يجد مؤيدين كثيرين له لدى الرأي العام في الأردن ومصر (المرشّحتين للانضمام إليه)، وربما لدى قطاعاتٍ من الرأي العام الخليجي، ويثير هواجس استراتيجية أوسع وأبعد مدى من حدود الغاية المعلنة لهذا الحلف.