الاختطاف سياسة رسمية

الاختطاف سياسة رسمية

06 أكتوبر 2018

بوابة القنصلية السعودية في اسطنبول (3/8/2018/فرانس برس)

+ الخط -
جاء خبر اختفاء الكاتب السعودي، جمال خاشقجي، بعد دخوله مقر سفارة بلاده في إسطنبول، ليثير مزيدا من علامات الاستفهام بشأن تعامل نظام العربية السعودية مع معارضيها، فهذا الصحافي، المعروف بتوجهاته الحرة ومناهضته سياسات القمع الأمني في بلاده، تحوّل إلى ضحيةٍ جديدةٍ، تضاف إلى قائمة الذين عمدت السلطات الرسمية إلى تصفية الحساب معهم، بأساليب مخابراتية، تسعى إلى إخماد كل صوت مناهض لها، أو معارض توجهاتها.
ربما لم يتوقع المتابعون، وحتى خاشقجي نفسه، هذه الفعلة، نظرا إلى جملة من العوامل، أهمها شهرة الرجل وعلاقاته على المستوى الدولي، بالإضافة إلى طبيعة المكان مسرح العملية، لأن خطوةً من هذا من القبيل تزيد التوتر بين الطرفين، التركي والسعودي، في ظل علاقاتٍ فاترة أصلا. ولأن لدى الدولة التركية حساسية بالغة تجاه كل ما يمسّ أمنها الداخلي، ويشيع حالةً من التوجس لدى المقيمين العرب والأجانب من المقيمين على أراضيها، حيث كثيرون منهم معارضون سياسيون أو ناشطون حقوقيون.
لكن إطلالة على الماضي في تاريخ الممارسات الأمنية السعودية تكشف عن عملياتٍ مماثلةٍ جرت ضد شخصيات متعدّدة، بعضها قريب من الأسرة السعودية الحاكمة، وعمليات أخرى ضد معارضين سياسيين، عمدت أجهزة السلطة إلى إخفائهم قسريا بشكلٍ يثير الاستفهام في ما إذا كانت هذه العمليات جزءا من سياسة سعودية رسمية ضد كل من يعارضها، بما يشيع الرعب في صفوف كل من يفكّر في نقد النظام، أو المطالبة بالحريات، وإن كان مقيما خارج البلاد. ففي 17 ديسمبر/ كانون الأول 1979، اختطف عملاء سعوديون، بالتعاون مع جهاتٍ 
مرتزقة، المعارض السعودي ناصر السعيد في بيروت، واختفى ثم لم يعثر له على أثر. وتدل القرائن، بما فيها شهادة للحارس البريطاني لأمراء آل سعود، كارل يونغ، أن الرجل تم التخلص منه بوحشيّة، وتم التكتم على مصيره بشكل جعل القضية يلفها الصمت إلى يوم الناس هذا، على الرغم من شهادات متناثرة هنا وهناك بشأن الحادثة. وتعيد الأجهزة السعودية الكرّة سنة 2015، حيث تم اختطاف الأميرين تركي بن بندر وسعود بن سيف النصر بشكل منفصل، ثم يلحق بهما في السنة التالية الأمير سلطان بن تركي، وهذه حوادث قدّمت بشأنها هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) فيلما وثائقيا بعنوان "مختطفون.. الأمراء السعوديون المفقودون".
تحيل هذه الأحداث إلى حقيقة أن سياسة الاختطاف والإخفاء ترقى إلى مستوى الممارسة السعودية الرسمية، للتخلص من المعارضين، سياسيين كانوا أو لتصفية الحسابات داخل الأسرة الحاكمة، الأمر الذي يدفع إلى التحسّب إزاء الممارسات الرسمية السعودية التي لا تراعي العلاقات الدولية، ولا تعرف حدا لمنطق القمع الممتد خارج الحدود الجغرافية لمملكة الصمت، كما سمّتها يوما منظمة العفو الدولية.
غير أنه سيكون لحادثة إخفاء الكاتب جمال خاشقجي ارتداداتٌ مختلفة عما سبق، لأسبابٍ عدة، أهمها أن الأجهزة الرسمية السعودية ورّطت نفسها في عمليةٍ غير محسوبة العواقب، وربما يمكن تفسير التهوّر الذي رافقها بالسياسة الهوجاء التي يعتمدها ولي العهد الحالي، محمد بن سلمان، والتي تستند إلى نوعٍ من البلطجة السياسية أكثر مما هي ممارسةٌ عقلانية، وحساب ذكي للمصلحة، يراعي علاقة دولته بالدول الأخرى، فالسلطات التركية واثقةٌ من اختفاء خاشقجي في قنصلية بلاده، وهو ما يذهب إليه كل المراقبين. الأمر الذي يضع أجهزة القنصلية، ومن ورائها مسؤولي الخارجية السعودية، في أزمةٍ حقيقية بين التخلص من الكاتب المختطف بأي صورة، أو الإفراج عنه مع ما في هذه الخطوة من إثباتٍ لعملية الاختطاف التي دأبت هذه الأجهزة على نفي حصولها.
في المقابل، يبدو أن سعي السلطات التركية حاليا هو محاولة إنقاذ جمال خاشقجي، بغض النظر عن الأسلوب المتّبع، بمعنى أنها ستسعى إلى إيجاد حلٍّ مع الطرف السعودي، للإفراج عن المختطف، ولملمة الموضوع بين الطرفين. وهذا ما يُلاحظ في تصريحات مسؤولين أتراك، يؤكّدون أن الكاتب لايزال بين جدران السفارة. وفي الوقت نفسه، يؤكدون على التواصل المستمر مع الطرف السعودي الذي يواصل الإنكار علنا، وبالتعتيم الإعلامي في أجهزته المختلفة، وفرض منطق الصمت، وهو أمر لم يعد ممكنا حاليا، في ظل انتشار وسائل التواصل الاجتماعي وأجهزة الإعلام، بالإضافة الى أهمية الشخصية المختطفة، وما تحظى به من احترامٍ في أوساط عربية وغربية، بما جعل قضيته محل اهتمامٍ ومتابعةٍ في كل الأوساط، فهل يكون إخفاء جمال خاشقجي نقطة النهاية لسياسة الاختطاف السعودية؟

دلالات

B4DD7175-6D7F-4D5A-BE47-7FF4A1811063
سمير حمدي

كاتب وباحث تونسي في الفكر السياسي، حاصل على الأستاذية في الفلسفة والعلوم الإنسانية من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بصفاقس ـ تونس، نشرت مقالات ودراسات في عدة صحف ومجلات. وله كتب قيد النشر.