من المغرب إلى الأردن

من المغرب إلى الأردن

01 نوفمبر 2018
+ الخط -
أفاق المغاربة في 16 الشهر الماضي (أكتوبر/ تشرين الأول) على فاجعة انقلاب قطار ركاب في بلدة بوقنادل شمال العاصمة الرباط. وأسفر الحادث المروع عن مصرع سبعة أشخاص وجرح عشرات. وفيما كان الرأي العام ينتظر أن يقدّم وزيرا التجهيز والنقل، ومدير المكتب الوطني للسكك الحديدية، استقالاتهم، بحكم مسؤولياتهم السياسية والإدارية، تم الاكتفاء بتحميل المسؤولية لسائق القطار باعتقاله، وإحالته على القضاء بتهمة القتل والجرح الخطأ.
وتشاء الأقدار أن يتعرّض الأشقاء في الأردن، بعدها بأيام، لفاجعةٍ مشابهة، أودت بحياة 21 شخصا وأصيب آخرون، جرفتهم سيول عارمة، بينما كانوا في حافلة تُقلّهم في رحلةٍ مدرسية إلى منطقة البحر الميت. ولم يرقَ قرارُ السلطات إحالة بعض المتورّطين مباشرة بالحادث على المدعي العام إلى مطالب الشارع الأردني الذي كان ينتظر تقديم الوزراء والمسؤولين ذوي الصلة بالحادث استقالاتهم فورا، سيما وزير التربية والتعليم، فالرحلة مدرسية، ومعظم الضحايا تلاميذ ومعلمون.
يعبّر تزامنُ الحادثتين المروّعتين، بشكل لا يخلو من دلالة، عن أزمة السياسة العربية، وعجزها عن استيعاب القيم والضوابط التي يُفترض أنها تحكُم العمل العام. يتعلق الأمر بصورةٍ قاتمةٍ يرسمها ساسة ومسؤولون يفتقدون الحد الأدنى من الإحساس بالمسؤولية الأدبية والأخلاقية والسياسية، ولا يعيرون اهتماما لمشاعر الناس في مثل هذه المحن التي تأخذ شكل الكارثة الوطنية.
لا تزال الثقافة السياسية والاجتماعية السائدة في بلادنا العربية تنظر إلى العمل العام مَغنما شخصيا وعائليا وحزبيا وعشائريا. ولذلك، يعدّ التنازل عن المنصب، وما يحيط به من امتيازٍ ووجاهةٍ، بتقديم الاستقالة، غباءً وسوء تقدير، وتفريطا في مكسبٍ قد لا تجود به منعرجات السياسة مرة أخرى. ولذلك، غالبا ما يكتفي الوزراء والمسؤولون العرب، في مثل هذه الحوادث المأساوية، بتقديم التعازي لعائلات الضحايا ومواساة المتضرّرين، وفتح تحقيق قضائي، والاكتفاء بإثارة المسؤولية في جانبها الإداري والتقني الصرف، أو بصيغةٍ أخرى تقديم أكباش فداء ترضيةً للرأي العام. أما في البلدان التي تحترم فيها الحكومات شعوبَها، فإن هذه المواقف تفرض على المسؤول المعني أن يُعجّل بتقديم استقالته، ليس فقط تعبيرا عن تحمّله المسؤولية السياسية والمعنوية، ولكن أيضا تضامنا مع عائلات الضحايا المفجوعة، وإبداءً للحس الوطني المطلوب.
يشترك المغرب والأردن في سماتٍ كثيرة، أبرزها طبيعة النظام السياسي، ووجود حد أدنى من الحراك الحزبي والسياسي المتحكّم فيه، ومجتمع مدني يتسم ببعض الحيوية، ووعي ديمقراطي متقدّم، نسبيا، قياسا لبلدان عربية أخرى. وخلال الربيع العربي الذي اجتاحت رياحه المنطقة قبل ثماني سنوات، أفلح النظامان، المغربي والأردني، في الخروج بأقل الأضرار من هذا الزلزال، فانتهجا سياسة الإصلاح المتدرّج، إن لم نقل البطيء، في ظل ضمان الاستقرار الاجتماعي والسياسي، وهي معادلةٌ، على أهميتها، أخفقت، على ما يبدو، في إفراز امتداداتها العميقة داخل المجتمع، بسبب غياب خيطٍ ناظمٍ يؤطّرها في سياساتٍ عمومية، ترتبط فيها المسؤولية بالمحاسبة. لم يكن هناك تغييرٌ عميقٌ في أساليب العمل الحكومي والإداري. وبقي ربط المسؤولية بالمحاسبة مجرّد خطابٍ في حاجةٍ إلى تفعيل واضح، وهو ما بدا دالا في فاجعتي بوقنادل والبحر الميت.
لا يبدو أن هناك تحولا في نظرة معظم الحكومات العربية إلى شعوبها، فلا تزال تنظر إليها بريبة وحذر، وتعتبر تنامي حسّ المواطنة لدى هذه الشعوب تهديدا، على المدى البعيد، للتوازنات السياسية والاجتماعية القائمة. وتفضل أن تبقى هذه المواطنةُ حبيسة القوانين والتشريعات والخطابات، وألا تتحوّل إلى ديناميةٍ حيةٍ يعيشها الناس، ويتفاعلون معها، سيما في أوقات المحن التي تعد اختبارا حقيقيا لمدى شرعية الحكومات وأهليتها لتمثيل شعوبها.
سواء تعلق الأمر بفاجعة بوقنادل أو البحر الميت، ما زال أمام الإنسان العربي، في المغرب والأردن وغيرهما، الكثير ليحوز صفة المواطن الذي يحظى باحترام حكوماته وتقديرها، سيما في لحظاتٍ فارقةٍ، تتكالب فيها عليه كوارثُ الطبيعة، وبنياتٌ تحتيةٌ متهالكةٌ تفضح واقع العمل العام في معظم بلداننا.