رحلة مدرسية

رحلة مدرسية

31 أكتوبر 2018

(حسين مير)

+ الخط -
كنت من السذاجة إلى درجة أنني اعتقدت أن الهدف من الرحلة المدرسية الوحيدة التي نخرج فيها من روتين المدرسة هو مصلحتنا باعتبارنا تلميذات صغيرات، وأنها مكافأة لنا على تعبنا واجتهادنا خلال العام الدراسي. وقد كانت الرحلة الوحيدة التي تنظمها المدرسة تخرج في شهر مارس/ آذار من كل عام تزامنا مع فصل الربيع. وعلى الرغم من أن الجو في هذا الشهر لا يزال يحتفظ ببرودته وأجوائه الماطرة، إلا أن القائمين على تنظيم الرحلة كانوا يصمّمون على أن بداية فصل الربيع هي بداية موسم الرحلات في ربوع البلاد، حسبما نقرأ في الكتب. ولذلك، نخرج خلال هذا الشهر تحديدا، لكي نتحقّق مما تعلمناه في كتاب القراءة أو الجغرافيا.
ولكن حين كبرت ووعيت أن الحياة قائمة على المصالح، اكتشفت أن الرحلات المدرسية هي من وسائل التكسّب التي يحصل عليها عدة أطراف، مثل صندوق المدرسة وشركة الحافلات وإدارة الكافتيريا التي يعرج إليها الطلاب خلال الرحلة، حيث تقدّم لهم، بالاتفاق مع السائقين وإدارة المدرسة، وجبات سيئة بأسعار مخفضة، والنتيجة إصابة طلابٍ كثيرين بحالات التسمم، أو التلبك المعوي في أقل تقدير. إضافة إلى أن معلمةً حتما سوف تقف في الحافلة لبيع الحاجيات للأطفال الذين حصلوا على مصروفٍ مضاعف، اقتطعته الأسرة عن الأبناء الآخرين؛ لكي يستمتع ابنهم برحلته السنوية، ويعود ليروي لهم ما رآه في الرحلة.
لم تتوقف الحوادث التي تحدث بصورة فردية خلال الرحلات المدرسية التي تمر بعد تصنيفها "حادثة قضاء وقدر"، ويكون ضحيتها عائلة طالبةٍ أو طالب فقدوا طفلهم أو تعرّض لحادثة في الملاهي أو لدغ أفعى في أحد الأماكن المهجورة التي لا يصل إليها سوى طلاب المدارس.
ولكن كل الذين سمعوا عن فاجعة البحر الميت التي ذهب ضحيتها تلاميذ مدرسة خاصة في الأردن استعادوا ذكرياتهم مع الرحلة المدرسية، وما كانت تعنيه لهم من فرحة وبهجة، وما يسبقها من استعدادات، واسترجعوا حوادث "فردية"، وقعت لأبنائهم أو أقاربهم، ولكن فداحة المصاب أشعرت الشارع العربي الذي تابع المأساة بمصاب الأهالي الذين فقدوا فلذات أكبادهم، والصدمة النفسية التي لحقت بالناجين. وكذلك التقصير في تأمين رحلة آمنة لمواطنين صغار، بدءاً من وزارة التربية والتعليم، ومرورا بوزارة الأشغال، وليس انتهاء بوزارة السياحة؛ لأن الفساد الذي أدّى إلى انهيار سد في منطقة البحر الميت أمام سيل جارف سببه الفساد في قاعدة الهرم التي يجب أن يهدم من أجلها الهرم كله.
في فيلم جريء، وصنّف واحدا من أفضل الأفلام العربية منذ نشأة السينما "آخر الرجال المحترمين"، كادت حرب ضروس تنشب بين أكبر عائلتين في صعيد مصر بسبب ضياع بنت صغيرة، خرجت في رحلة مدرسية إلى القاهرة، ولولا جهود المعلم الذي كان يشعر بالمسؤولية الجمّة في البحث عنها لوقع ما لا تحمد عواقبه، أمام اتهام أهل البنت العائلة المعادية باختطاف الصغيرة، والحقيقة أنها تعرّضت للاختطاف من سيدة، صادف وجودها في حديقة الحيوان، وتعاني من حالة نفسية بعد وفاة ابنتها.
لا يمكن أن يُغلق ملف قضية غرق الأطفال في البحر الميت، بإلقاء اللوم فقط على المدرسة التي غيرت وجهة الرحلة، ولا قرارها أن يخرج الأطفال في رحلة مغامراتٍ غير مناسبةٍ لأعمارهم، وفي أحوالٍ جويةٍ سيئة. ولكن لا بد من وقفةٍ طويلةٍ لمجريات الأمور في ما بعد وقوع الحادث، مثل تأخر وصول الإسعاف وفرق الدفاع المدني، وتضارب الأنباء حول أسماء الضحايا، وبحث أولياء الأمور وعوائلهم عن جثث أولادهم من دون تشكيل غرفة عملياتٍ مشتركة، توافي الأهالي بالأخبار أولا بأول، والإشاعات التي تقع في هذه الحوادث التي يؤجّج نيرانها رواد مواقع التواصل الاجتماعي، وشماتة فئةٍ خارجة عن الإنسانية بالأطفال وعوائلهم، لأنهم من الطبقة المخملية في الأردن التي استطاعت إلحاق أطفالها بمدرسةٍ خاصة، وتوفير تكاليفها وتكاليف رحلاتٍ ليس الغرض منها سوى المظاهر الكاذبة، وليس أخيرا التحسّب لكل كارثة محتملة قبل وقوعها، لأن درهم وقاية خير من قنطار علاج.
avata
سما حسن
كاتبة وصحفية فلسطينية مقيمة في غزة، أصدرت ثلاث مجموعات قصصية، ترجمت قصص لها إلى عدة لغات.