حامد العويضي.. سمير المساكين

حامد العويضي.. سمير المساكين

04 أكتوبر 2018
+ الخط -
كان صوت المرحوم الخطّاط، حامد العويضي، يأتيني عبر الهاتف، بالتساهيل ومن غير ميعاد أبداً، وكأنه يسكن جبلاً بعيداً في عزّ الشتاء، يتأمل حاله قائلاً: "فينك يا أخي.. إيه شغل العيال ده.. تعال"، ويسكت، ونتلاقى. يحكي وهو يجرّب الخطوط على الورق، ومن دون أن يعظِّم من أمر الحكاية. يفتح شبّاك الحكايات بك، وكأنه يحرّضك على فرح الحكاية، كي يناولها لك، ويصمت هو باسماً مع الحروف، مرّة ينظر إليك، وهو يمزّق الورق الذي تكدّس بحروفٍ خانته، ومرّة يغيّر شرخة الغاب، كي تجود بالسحر على بياض الورق، ويقول: ".. إيه يا عم الحكايات الصعبة دي اللي إحنا سامعينها؟.. ده بقت مسخرة خالص والله"، وتأتي روائح القهوة ويعتدل الكلام، بعد ساعة، بميزان المرحوم أحمد إسماعيل، الذي يأتي بكامل فرحه وهندامه.
تخرّ من فمه ابتسامة كالشهد، حيما يتذكّر أحمد إسماعيل حكايةً نسيها حامد، المزدحم بالحكايات، وهو يضع الشريط في فم المسجل. شريط جديد جاءه من "قوص من يومين" لعم الشيخ أحمد برين يحكي حامد، وصوت أحمد برين يزحف إلى المناطق الحزينة في الروح، فيصمت أحمد إسماعيل.
في غرفة حامد في صحيفة الأهرام، كان أحمد برين وليّ الغناء وحده لدى حامد، وحامد هو الصامت مع الحروف بشرخة الغاب، ومع أفهام العيون بالنظرة المختلسة كل آن، وشرخة الغاب لا تفارق العمل. فجأةً، يدخل أحمد إسماعيل إلى ظلام السجون والسلف والخلف، حتى يصل إلى قبور قتلة أنور السادات.
يصمت حامد، ويطلب أحمد إسماعيل (الشيخ مصطفى إسماعيل) يقول حامد: حاضر. .. يلقم المسجل شريطاً لمصطفى إسماعيل، ويعود إلى الأحبار وشرخة الغاب. يبحث أحمد عن البهجة، وحامد يراقص الصمت بشرخة الغاب، وتعلو التفاسير وراء رِقّة الصوت وسهولة التلاوة وتأدُّب الجبال تحت أقدام الأنبياء، وأنا أنظر إلى الكتب التي على الأرفف في مكتب حامد. الصامت قد تكون عزيزة عليه كتبه، ما في يد حامد غير عزيز عليه أبداً. سخاء العارف والراحل أيضاً. بعد ساعتين يخطفنا السهر. ويبدأ الصامت في البوح والكلام، وتأخذ مشاريع ابتساماته طريقها إلى الضحك، ويتجلّى المرح، فيقول: "إيه المسخرة دي يا أخي.. مش جماعة صعايدة رنقشوا الواد هريدي من يومين في التونسي. يسأل أحمد إسماعيل عن هريدي، فيرد حامد: ".. الواد عامل عبد الحليم حافظ، وعاوز يحب على نفسه كل يوم.. تصور المسخرة، يا أحمد". .. يضحك أحمد ويقول: "سيبة".
في آخر الليل نتفرّق، بعد أن يمتلئ المكان عن آخره بالحكايات التي كانت نائمةً ومنسيةً، مثل عدد الميداليات التي كتبها حامد في السبعينيات والثمانينيات في ورشة في السيدة زينب. كلمات مليئة بالأسهم والقلوب ومقاطع من أغاني أم كلثوم وعبد الحليم وفريد. ميداليات يشتريها العشّاق والمراهقون. أنفق حامد كل فلوسها على أصحابه، كي يخرج من الدنيا خفيفاً.