اللاجئون وصدام الثقافات

اللاجئون وصدام الثقافات

04 أكتوبر 2018

أسرة سورية لاجئة في فولفسبورغ وسط ألمانيا (3/11/2015/فرانس برس)

+ الخط -
عندما قرّر اللاجئون من الحرب السورية الهرب من الموت، كانت النجاة هي الفكرة الأساسية التي شغلتهم، ومن أجلها ركب الآلاف منهم رحلات الموت عبر المتوسط، تحدّوا الموت لينجوا منه. مع انتهاء الرحلة المنهكة والخطرة، وجد اللاجئ نفسه في مجتمعٍ آخر وعالم آخر، صحيح هو مجتمع من البشر، لكنه لا يشبه المجتمع الذي جاءوا منه.
في المواجهات الأولى مع هذه المجتمعات، يعرف اللاجئ أنه انتُزع من سياقه الاجتماعي والعائلي والقيمي، ليجد نفسه في مواجهة مجتمعٍ يجهل كل شيء عنه، من اللغة إلى العلاقات الاجتماعية إلى كيفية عمل النظام في هذه البلدان، وصولا إلى كيفية التعامل مع أسرته الضيقة. وفي هذا السياق، لا يفيده البلد الذي جاء منه نموذجا مرجعيا لإجراء مقارنةٍ لمعرفة على أي أرضٍ يقف، الأرض تميد من تحته، يفقد توازنه، ويحتار ما الذي يمكن أن يفعله في عالمه الجديد.
بعد أن دمّرت الحرب المجتمعات المحلية والروابط العائلية، ليس بسبب المساكن والمدن التي دمرتها، والتشريد الذي تسببت به للسوريين فحسب، بل دمرت هذه الروابط ، بعجز رب العائلة عن حماية عائلته، سواء من القمع أو من الحاجة أيضا. وفي الطريق إلى المنافي، زادت الشروخ في العائلة الواحدة حدّة.
هناك حربٌ من نوع آخر تشهدها العائلات التي وصلت إلى "جنة المنفى"، حرب الفروق الثقافية بين مجتمعين، مكانة الرجل، مكانة المرأة، التحكّم بحياة الأطفال والسيطرة على العائلة، هنا يقع صدام الثقافات.
أول معارك المنفى العائلية هي التي بين الأزواج، يستغرب الموظفون في البلدان المضيفة 
للاجئين ارتفاع نسبة الطلاق بين اللاجئين بعد وصولهم. وهذا لأنهم لا يدركون أي انقلابٍ حدث في حياة العائلات بانتقالها إلى البلدان الجديدة، ولا يعرفون أي جروحٍ وندوبٍ سببتها الحرب لأفراد العائلات التي وصلت إلى المنافي، قد تكون متعافيةً جسديا، لكنها محطمة نفسيا تماما.
في المنافي، يصيب الفصام نساءً كثيرات. تشعر المرأة بالحرية، وتشعر أن الفروق والأولوية التي كانت للرجل هناك في المكان الذي أتوا منه، لم تعد واردة. يمنحها هذا إحساسا بالقوة والاستقلالية، وبالتالي بالحرية، لكنها تستخدمها أسوأ استخدام، الإحساس بالاستقلالية والحرية والقيود التي يفرضها القانون على قمع الرجل للمرأة، يولد حالة معكوسة، المرأة أول ما تقوله للرجل، أنك لم تعد تلزمني بشيء، وإذا كانت هي التي خاضت رحلة الهجرة المحفوفة بالمخاطر، فلا تتورّع أن تذكّره، في كل وقت، إنها هي التي جاءت به إلى جنّة أوروبا. وهذا غالبا ما يشكل مدخلا لإذلال الرجل، وإهانته، بوصفه حرية المرأة. وقد يكون سلوك المرأة العدواني انتقاما من تاريخ سابق تعرّضت فيه سنوات من القمع في الوطن الأم. في هذه الشروط الجديدة، يشعر الرجل بالخصي، بعد أن كان الآمر الناهي في بيته، والقادر على معاقبة أبنائه حتى بالضرب، يجد سلطةً ويده مغلولة، لا يستطيع أن يقوم بما كان يقوم به هناك، يتحوّل فجأة إلى نكرة.
هناك من النساء والرجال من يصيبهم فكر الحرية بالرعب، ما الذي نفعله بحريتنا، بحياتنا؟! لا شيء، نريد من يُملي علينا، هذا ما اعتدنا عليه، لم نعتد الحرية. ليس لسؤال الحرية جواب عند اللاجئ. فهو وهي لا يدركان تلازم معادلة الحرية والمسؤولية وتكاملها. أنا أملك حريتي، لأني أقوم بواجباتي.
الأولاد قصةٌ محزنةٌ أخرى، في هذه البلاد، ليست الحرية للآباء والأمهات فحسب، يدخل الأولاد أيضا في عالمها السحري، عالم لا يشبه العالم المخيف الذي جاءوا منه، يبدأ من المدرسة التي سرعان ما يتعلّقون بها، فهي أماكن حياة، وليست إسطبلات لحبس الأطفال، كما هي الحال في بلدان المنشأ، مثلا، ليست للمدارس أبواب أو أسوار في السويد. ليس هذا ما يقلق الآباء والأمهات. ما يقلقهم سؤال الحرية، أن الأولاد يستطيعون أن يغيّروا ديانتهم كما يشاءون، وببساطة منقطعة النظير، الدين مسألة بين الشخص وربه، ليس لأحد علاقة بها، لا المجتمع والدولة ولا المدرسة. عندما تسأل المعلمة الأبوين، ماذا لو أراد ابنك أو ابنتك تغير دينهم؟ يقع السؤال عليهما وقوع الصاعقة، أي كلام يسمعون؟! الأولاد على دين آبائهم، هنا يكتشفون أن هذا ليست بديهية، وأن الدين مسألة شخصية، وليست عامة.
أما الحرية الجنسية فحدّث ولا حرج، فإذا كان الأهل يمكن أن يقبلوا الحرية الجنسية لذكورهم، 
فإن الفكرة تُصيبهم بالدوار بالنسبة لإناثهم، وبلدٌ مثل السويد للمراهقين حق ممارسة الجنس في سن الخامسة عشر. الأوروبيون متصالحون مع أجسادها، حيث الأجساد والعلاقات الجنسية مسألة شخصية، لا علاقة لها بالأخلاق، المرأة التي تمارس الجنس تمارس حقها الطبيعي في الحياة، لا تمارس الرذيلة كما هو سائد في ثقافتنا، فعندنا ما زالت الأجساد مسألة عامة ومجتمعية، والجنس قضية أخلاقية. لا يفهم القادم من بلادنا كيف يعيش رجل وامرأة مع بعضهما في بيتٍ واحد، من دون عقد زواج، ينجبون أطفالا تسجلهم الدولة رسميا من دون مُساءلة، يا للعجب!
في المنافي، هناك عالم جديد، يشعر اللاجئون بشعوريْن متناقضين خاطئين. الأول، شعور بالدونية تجاه مجتمع جديد، يمارس حياته بطريقٍ مختلفةٍ عن تلك التي عرفها سابقا، محمّل بالقيّم الإيجابية من دون أن يكون لها حامل ديني، كما ندّعي في بلادنا. الشعور الثاني، إحساس بالتفوّق الكاذب منسوبا للمسألة الدينية أيضا، ما يُنتج عنصريةً دونية معكوسة، هذه بلاد "كافرة" ونحن "مؤمنون"، وقد أُجبرنا على القدوم إلى هنا، وعلينا التعامل معهم بالحد الأدنى. وهي العقلية التي تؤسس للـ"غيتو" في المنافي بوصفه جدار دفاع ضد رذيلة هذه المجتمعات، ويتم استخدام الهوية الدينية ورموزها بأسوأ طريقةٍ لبناء هذه الجدران العالية مع المجتمعات الجديدة.
طبعا، ليس هؤلاء كل الصورة للاجئين في المنافي، في الوقت نفسه، يتعامل كثيرون مع هذه البلاد بوصفها فرصة، تقدم الكثير لهم ولأولادهم، وهؤلاء قادرون على مصالحة ثقافتهم السابقة من ثقافة المجتمعات الجديدة، ومن دون أن ترعبهم فكرة صدام الثقافات.
D06B868A-D0B2-40CB-9555-7F076DA770A5
سمير الزبن

كاتب وروائي فلسطيني، من كتبه "النظام العربي ـ ماضيه، حاضره، مستقبله"، "تحولات التجربة الفلسطينية"، "واقع الفلسطينيين في سورية" ، "قبر بلا جثة" (رواية). نشر مقالات ودراسات عديدة في الدوريات والصحف العربية.