الأميركيون سيذكرون ترامب طويلاً

الأميركيون سيذكرون ترامب طويلاً

04 أكتوبر 2018
+ الخط -
سيذكر الأميركيون طويلا دونالد ترامب، ليس بسبب طبعه الغريب عن الطباع الدبلوماسية لرؤساء الدول، وجهله وتصرفاته التي تصبح موضوعًا للتندّر، ما قد يجعل الأميركي يخجل من أن رئيس أقوى دولة بهذا الهزال الأقرب إلى التهريج أحيانًا. ولكن بسبب السياسات الجديدة التي يدفع الولايات المتحدة إليها، فهو يدمر السياسة السابقة التي صمّمتها الولايات المتحدة، وفرضتها بعد الحرب العالمية الثانية بما يحقّق مصالحها، فالولايات المتحدة أقامت بناء سياسيا واقتصاديا عالميا وفق مصالحها، جعلها المتحكّمة بـ "العالم الحر" عقودا، ويسعى ترامب اليوم إلى هدم هذا البناء الذي يرى أنه بات قديمًا، ولا يخدم مصالح الولايات المتحدة، بل بات خطرًا عليها. وقد لخّص خطابه الهجومي أخيرا في الأمم المتحدة جوهر ما يفكّر به، فهو يعلنها سياسةً تجارية حمائية، ويطلق حربًا تجاريةً تتعارض مع قواعد التجارة الحرة السابقة، ويعلنها ضد العولمة التي يرى فيها تهديدًا للسيادة الوطنية، ويرفض الأمم المتحدة ويناصبها العداء، ويسعى إلى تدمير مؤسساتها، ويرى أن مجلس حقوق الإنسان بات يشكل خطرًا على العالم، ويبني جدرانًا ضد الغرباء.
ولكن هل يعرف ترامب إلى أين سيأخذ أميركا؟ يبدو أنه لا يعلم، وتبدو قراراته ليست أكثر من رد فعل على واقعٍ غير مرغوب يتحرّك أمامه، فسياساته تبدو فرديةً، واستجابة لصراخ يعلو بسبب تغير نتائج السياسة الاقتصادية العالمية على أميركا، أكثر منها رؤيةً تعرف إلى أين تسير وكيف وما هي أدواتها. أي من دون أن يكون لديه رؤية واستراتيجية واضحة.
تلقى سياسات ترامب ترحيبًا من أوساط كثيرة في الولايات المتحدة، كما تلقى عداءً، لأنها تشكل تهديدًا لمصالح أميركا التجارية والاقتصادية ولمكانتها السياسية. ولكن المعسكر المعادي لترامب لا يملك رؤية لتوجيه سفينة الولايات المتحدة التي تتزايد الأمواج من حولها، مهدّدة مكانتها، كما هددت أمواج الحربين العالميتين، الأولى والثانية، مكانة بريطانيا وجعلتها دولةً في الصف الثاني أو الثالث اليوم بين الدول.
سنة 1944، وقد شارفت الحرب العالمية الثانية على الانتهاء، استغلت الولايات المتحدة نتائج الحرب التي دمرت دول أوروبا القوية، فدعت إلى مؤتمر بريتون وودز الذي حضرته 44 دولة، وأسّست صندوق النقد الدولي والبنك الدولي للإنشاء والتعمير، مؤسِسَةً نظاما نقديا 
ومصرفيا عالميا جديدا تتحكّم به وتديره لصالحها. وأصبح الدولار العملة المرجعية العالمية الرئيسية، والذي جلب لها، وما زال، منافع مادية وسياسية هائلة، كما عملت في عام 1947 على تأسيس اتفاقية "الجات"، والتي وضعت قواعد التجارة الحرة العالمية وفق المنظور الأميركي، وقد استبدلت بمنظمة التجارة العالمية سنة 1995. وكانت الولايات المتحدة من مؤسّسي الأمم المتحدة عام 1945 واستضافت مقرّها في نيويورك، كما كانت المبادرة إلى تأسيس حلف شمال الأطلسي (الناتو) عام 1949، لربط أوروبا ودول أخرى في الولايات المتحدة عسكريًا، وتأجيج الحرب الباردة مع المعسكر الاشتراكي السابق، كي تكون أوروبا وغيرها بحاجة للحماية الأميركية، وغيرها من اتفاقيات عالمية كثيرة تخص مختلف جوانب السياسة والاقتصاد والعلاقات بين الدول، ودفعت بقوة إلى الأمام بمجمل ما سميت العولمة. وكانت المنتج العالمي الأكبر والتاجر الأكبر عدة عقود. وكل هذه السياسات صممت تحت شعار "أميركا أولا"، ولكن من دون جعجعة ترامب.
يتجه ترامب الآن إلى هدم هذا البناء القديم، ولديه أنصارُه الأقوياء في الولايات المتحدة وأوروبا، فهذه السياسة لم تعد تعمل بالفاعلية نفسها لصالح الولايات المتحدة، وأصبحت التجارة الحرة تلحق بها الضرر أكثر مما تنتج لها من فوائد، فقد نقلت سياسات العولمة الوظائف إلى خارج أميركا، وتنمو قدرات تكنولوجية منافسة خارج أراضيها، ولم تعد المعدّات والمنتجات الأميركية المسيطرة في قطاعات إنتاجية عديدة، على الرغم من بقائها مسيطرةً في عدد منها، مثل تكنولوجيا المعلومات وخدماتها وصناعة الطيران وغيرها. ولكن ثمّة منافسين قادمين، فلم تعد السيارة هي رمز أميركا كما كان، ومنتجات سامسونغ الكورية اليوم (هذه الدولة الصغيرة) باتت تنافس منتجات أبل الأميركية، بل إن الصين على الطريق بمنتجاتها التي تتحسّن كل يوم، وتنمو الصين بمعدلات ترعب الولايات المتحدة، ويتوقع أن تتجاوزها بحجم اقتصادها في غضون عقدٍ ونيف. والنفقات الكبيرة التي تنفقها الولايات المتحدة على قواعدها في العالم تستهلك كثيرا من أموالها، وتبرز اليوم عملات منافسة وغيرها، أي أن سياسة ترامب لا تأتي من فراغ، ولديه أنصار كثيرون في قطاعات شعبية وأخرى اقتصادية. ولعل أهم مخاطر توجهات ترامب تكمن في توجهاته ضد حرية التجارة، ومخاطر تأثير سياساته على دور الدولار عملة مرجعية، ومخاطر توجهه ضد سياسات العولمة وسلوكه المعادي والمستفز لأقرب شركائه.
على الرغم من أن لدى أميركا سوقا داخلية واسعة، فإنه سيكون لتحولها إلى إنتاج جزء كبير مما تستورده الآن من منتجات وخدمات رخيصة آثار موجبة داخلية، مثل إيجاد فرص عمل وضرائب للخزينة وتوسيع اقتصادها الداخلي، لكنه سيرفع تكاليف إنتاجها، وسينعكس هذا ارتفاعًا في الأسعار، وتأثيرًا على مستوى المعيشة، وسيعزّز عزلة أميركا عن العالم، وستكون لهذا آثار ضارة على المدى غير البعيد.
وسيأتي رد الفعل في "عقب آخيل" الاقتصاد الأميركي، وهو الدولار، فأميركا تحقق منافع هائلة من وضع الدولار عملةً مرجعيةً ورئيسا في الاقتصاد العالمي، فهو العملة الرئيسة للصفقات التجارية والقروض واحتياطيات الدول وأسعار بورصات السلع وغيرها، وكل هذا ينتج طلباً كبيرًا عليه، وتطرح أميركا كميات كبيرة من الدولار في الأسواق سنويًا لتلبية احتياجات الاقتصاد العالمي، وتحصل مقابلها على سلع وخدمات، بينما تبلغ كلفة طباعتها مبالغ زهيدة (مبادلة ورق مطبوع بمنتجات). وستدفع سياسات ترامب دول العالم نحو التخلي تدريجيًا عن الدولار، ما سيحرم أميركا من منافعه. ولم يعد هذا الأمر تكهنات، بل يصبح واقعًا اليوم، فرجل مثل رئيس المفوّضية الأوروبية، جان كلود يونكر، يدعو إلى اتخاذ الخطوات اللازمة 
لتعزيز مكانة اليورو في النظام المالي العالمي اعتباراً من العام المقبل (2019)، ويدعو مثلاً إلى تسديد واردات أوروبا من الطاقة باليورو بدلا من الدولار، وشراء الطائرات الأوروبية باليورو بدلا من الدولار. وتدعو دول، مثل الصين وروسيا والهند وباكستان وإيران، إلى التبادل التجاري بالعملات المحلية بدلًا من الدولار، وهذا يعزّز دور اليوان عملة صعبة على حساب الدولار، إذ سيكون اليوان الصيني عملة القياس المرجعية. وفي شنغهاي الصينية، تم إطلاق بورصة عالمية لتداول عقود النفط بالعملة الصينية اليوان، في خطوةٍ تمثل ضربة قوية لاحتكار البترودولار، وسيحرّض هذا موجة متصاعدة من تخلي الدول تدريجيًا عن إبرام الصفقات بالدولار، وعن الدولار عملة احتياط رئيسية، وستتحول أسعار بوصات السلع نحو عملات أخرى، ويحرض هروب إيداعات فردية هائلة من الدولار نحو عملات أخرى وغيرها. وستكتمل دائرة المخاطر إذا قلّصت الدول مشترياتها من سندات الخزينة الأميركية، وهي تتم بالدولار وتغذّي عجز الموازنة الأميركية الهائل، وقد بلغت مديونيتها أكثر من 19 ألف مليار دولار. ويهدّد هذا كله الطلب على الدولار، ما يخفض قيمته وقيمة الاقتصاد الأميركي، ويجعل الأميركيين يخسرون، ويرفع الأسعار داخل أميركا، وستتحول الفوائد من أميركا إلى الدول صاحبة العملات التي تحل محله، وسيبقى الآخرون من بقية الدول الخاسرين دومًا.
هل سيلجأ ترامب إلى شن حروب؟ اعتادت أميركا أن تعتاش على التوترات في العالم، فإن اتجه ترامب إلى فرض إتاوات على الدول التي تحميها، وطالب أوروبا واليابان وكوريا والخليج وغيرها بدفع نفقات هذه الحماية، فستنعطف تلك الدول إلى البحث عن سياسات أخرى، لإطفاء تلك التوترات، كي لا تبقى بحاجةٍ للحماية الأميركية، وتحت رحمة الابتزاز الأميركي. وستتجه إلى توطيد علاقات حسنة سياسية واقتصادية مع موسكو وبكين، خصوصا أن العالم يتغير اليوم، وتبرز قوى اقتصادية وعسكرية منافسة، تفقد أميركا ميزة المصدر الوحيد. وأمام هذا الواقع، يفكّر ترامب بعضلاته أكثر مما يفكر بعقله، وهذا أحد أوجه الشبه مع صديقه الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، فهو يفكّر ببناء قدرة عسكرية أعظم، لكن هذه القدرة الأعظم تحتاج قدرة مالية أعظم، فإن أدّت سياسته إلى إضعاف الاقتصاد الأميركي فَسَتَعْمَلْ سياسته عَمَلَ المِقَصْ، ضعف اقتصادي أكثر وإنفاق عسكري أكبر، وستكون الصين سعيدة بذلك.