في الطريق إلى استعادة أرض الباقورة والغمر

في الطريق إلى استعادة أرض الباقورة والغمر

27 أكتوبر 2018
+ الخط -
قبل أيام من إعلان الملك عبدالله الثاني إنهاء العمل بملحق معاهدة السلام الأردنية الإسرائيلية، كان الخطاب الدبلوماسي الأردني يتمحور حول أن موضوع أراضي الباقورة والغمر قيد الدرس. فيما كان ناشطون وحراكيون يخططون لوقفاتٍ ومسيراتٍ تطالب الحكومة بإبلاغ تل أبيب بانتهاء العمل بالنظام الخاص بأراضي المنطقتين في أكتوبر/ تشرين الأول من العام المقبل (يقضي ملحق الاتفاقية بالإبلاغ قبل عام من انتهاء النظام الخاص المؤقت)، وكان نوابٌ قد أعدّوا عريضةً تدعو الحكومة إلى اتخاذ القرار المتعلق بوقف العمل بالنظام المؤقت للمعاهدة الموقعة عام 1994. كما شهدت المحاكم الأردنية تسجيل مجموعة إنذارات عدلية ضد الحكومة، للمطالبة بعدم تمديد تأجير أراضي منطقتي الباقورة والغمر لإسرائيل. وقد اختار العاهل الأردني، لدى استقباله سياسيين، يوم 19 أكتوبر الجاري، للإعلان عن أنه تم إبلاغ الجانب الإسرائيلي بقرار الأردن وقف العمل بذلك النظام. وبهذا الإعلان، تمت إحاطة الشارع وأروقة مجلس النواب والنقابات بأن لا مبرّر لحراك جديد، فـ"لطالما كانت الباقورة والغمر على رأس أولوياتنا، وقرارنا هو إنهاء ملحقي الباقورة والغمر من اتفاقية السلام، انطلاقا من حرصنا على اتخاذ كل ما يلزم من أجل الأردن والأردنيين"، كما غرّد الملك. وبينما تنفّس الناس الصعداء، بدا الجانب الإسرائيلي مفاجأً إلى حد كبير بالقرار الأردني، ولم تخل ردود الفعل الأولية من ارتباك وشعور بالصدمة، إذ تم الإعلان عن الموقف الأردني كما هو بادٍ بغير تمهيدٍ دبلوماسي مسبق، ومن دون إثارة الموضوع من قبل بين الجانبين.
ويُذكر أن أراضي الباقورة في شمال البلاد قد شملتها المفاوضات الأردنية الإسرائيلية، كونها 
كانت خاضعة للاحتلال منذ العام 1950 (بعد عامين من النكبة ونشوء إسرائيل على أرض فلسطين)، حيث توسعت القوات الإسرائيلية متجاوزة خطوط الهدنة لعام 1949، وفرضت أمرا واقعا عليها، استمر حتى انتقال وضع هذه الأراضي إلى نظام خاص مؤقت، للانتفاع من الجانب الإسرائيلي، وتبلغ مساحتها نحو 820 دونماً. أما أراضي الغمر في منطقة وادي عربة (جنوب)، فقد تم الاستيلاء الإسرائيلي عليها بين عامي 1968 و1970، واعتبرتها تل أبيب، منذ ذلك الحين، امتداداً لمستوطنة تسوفر على الجانب الإسرائيلي، وتبلغ مساحتها 4235 دونماً.
في الأحوال الطبيعية وبين الدول العادية، فإن إجراءً كهذا يُقابله الطرف الآخر بالاحترام، وإبداء الاستعداد التام لتنفيذ ما تم الالتزام به، ومن دون إثارة مشكلات مفتعلة. ولكن في حال دولة مثل الدولة العبرية، الأمر يختلف، فحيازة أرض طرف آخر لا تحمل سوى على التفكير بدوام الحيازة والاستحواذ، فالقضم المتدرّج والمتتابع للأراضي جزء أصيل من العقيدة العسكرية الإسرائيلية، ومن أخص الخصائص الصهيونية. وعويل المزارعين الإسرائيليين الذين يستخدمون أراضي المنطقتين، وتهديدات وزير الزراعة، أوري أريئيل، تعكس هذه العقلية، وتجسّد هذا السلوك الذي لا يمكن وصفه سوى بسوء النية والاحتيال، علما أن الجانب الإسرائيلي منح اسمين إسرائيليين للمنطقتين، هما نهرايم وتسوفر.
وبينما أعلن رئيس حكومة الاحتلال، بنيامين نتنياهو، عزمه على التفاوض مع عمّان، واثقاً من مواهبه التفاوضية، فإن سفيرا إسرائيليا سابقا في الأردن، هو عوديد عيران، أعلن أنه "ما زال هناك متسع من الوقت كي يعيد البلدان التفاوض على الاتفاقية". بينما تفيد مجمل التصريحات المعلنة للدوائر الأردنية بأن لا شيء يقتضي التفاوض عليه، فالقرار سيادي، وينسجم مع نصوص ملحق اتفاقية السلام وروحها، والأراضي مسألة قائمة بذاتها تتعلق بحقوق السيادة وموجباتها. وقد جاءت تحذيرات المعلقين الأردنيين في الصحف المحلية، في الأيام القليلة الماضية، حافلةً بالتحذيرات من أساليب المماطلة ومحاولات الالتفاف الإسرائيلية، مع التمسّك بالقرار موقفا نهائيا.
وفي واقع الحال، يعيد هذا التطور الإيجابي إلى الواجهة أحقّية الأردن بأراضيه التي لا يباشر الانتفاع منها منذ 50 عاما بما يتعلق بأراضي الغمر، ومنذ 68 عاما بما يتصل بأراضي الباقورة. وثمّة من يرى أن الفرصة كانت متاحة نظريا على الأقل لاستعادة تلك الأراضي في مفاوضات العام 1994، وذلك في غمرة الحاجة الإسرائيلية آنذاك لتوقيع معاهدة سلام مع الأردن كثاني بلد عربي بعد مصر يقدم على هذه الخطوة (منظمة التحرير الفلسطينية أبرمت اتفاقا انتقاليا عام 1993، عرف باتفاق إعلان المبادئ، وجرت تسميته إعلاميا باتفاق أوسلو). فيما يتخوف سياسيون، منهم وزير الخارجية الأسبق مروان المعشر، من مفاوضات طويلة قد تستغرق سنوات، كما جرى في مفاوضات طابا بين الجانبين المصري والإسرائيلي، التي استغرقت نحو سبعة أعوام بين عامي 1982و1989، ولم تذعن تل أبيب لكون طابا مصرية إلا بعد تحكيم دولي.
وبينما تحدّث ملحق الاتفاقية الأردنية الإسرائيلية عن مشاوراتٍ في حال أعلن أحد الجانبين 
عزمه على وقف العمل بالنظام المؤقت، فالخشية أن تتحول هذه المشاورات إلى ما يشبه مفاوضات، علما أن الجانب الأردني مصمم على عدم الدخول في مفاوضات، ودعوة الجانب الإسرائيلي إلى إخلاء تلك الأراضي خلال المهلة المتاحة حتى 25 أكتوبر/ تشرين الأول 2019. وتثور محاذير أخرى من تدخل أميركي لـ"التوسط" بين الجانبين، لتقريب مواقفهما، مع وضع الصعوبات الاقتصادية والمساعدات الأميركية في الاعتبار الأميركي، وهناك عدا ذلك مخاوف من أن تلجأ أطراف إسرائيلية وأميركية إلى ربط مفتعل بين مسألة الأراضي الأردنية الواجب إعادتها، وبين الموقف من صفقة ترامب (صفقة القرن) المزمعة ومتعلقاتها: حق اللاجئين الفلسطينيين في العودة، ووضع القدس المحتلة. وقد نجح الأردن في هذه الظروف، وإنْ بدون قرار أو تخطيط مسبق، في توظيف الضغط الشعبي والنيابي الداخلي، من أجل إضفاء مزيد من الجدّية على قراره فرض سيادته على هذه الأراضي في شمال البلاد وجنوبها. ومن مصلحة البلاد أن تبقى محصّنةً بهذه المواقف، لضمان انتزاع الحقوق وسيادتها، وعدم زجّها أو ربطها، من طرف تل أبيب وواشنطن، بمسائل سياسية أو اقتصادية أخرى.