الجريمة: الكتابة. الأحراز: كُتب

الجريمة: الكتابة. الأحراز: كُتب

27 أكتوبر 2018
+ الخط -
تخيّل الكاتب الأميركي، راي برادبوري، في روايته "فهرنهايت 451"، نظاماً شمولياً يعادي أي مصادر للعلم غير دعايته السياسية، ولأجل ذلك أنشأ قوات "إطفاء"، مهمتها التفتيش عن الكتب في أي مكان، وإحراقها على درجة حرارة 451 فهرنهايت.
على الرغم من أن برادبوري كتب روايته كتخيّل "الدستوبيا" لو تم مد خط المكارثية في الولايات المتحدة، فبالتأكيد لم يكن يتصوّر أن هذا قد يتحول واقعاً كما حدث في مصر بعد مصادرة كتاب الخبير الاقتصادي عبد الخالق فاروق "هل مصر بلد فقير حقا؟"، والقبض على المؤلف، بل وكذلك صاحب المطبعة البالغ سبعة وستين عاماً!
عرفت الأستاذ عبدالخالق أولاً من كتبه بالغة الإفادة، حتى إذا اختلفت مع بعض ما ورد فيها، فهذا لا ينفي الاحترام للجهد المبذول والمنهجية الواضحة التي تحتمل الاختلاف بطبيعتها، ثم عرفته عبر عملي الإعلامي مراراً، فكان دائماً ودوداً متواضعاً، ومؤمناً للغاية بما يفعل، وكان لا يكلّ ولا يملّ من الأمل في أن الدولة ستأخذ يوما برؤاه الاقتصادية.
كان حرفياً يؤمن بأن "سلاحه قلمه"، بمعنى أنه ماكينة تأليف كتب ودراسات، وكان يسعد للغاية حين يقابل قارئاً، كما أبدى في المقابل عدة مرات استياءه من قلة حضور حفلات توقيع كتبه.
وللمفارقة، كرمت الدولة المصرية فاروق مرات، وهو الحاصل على جائزة الدولة التشجيعية في العلوم الاقتصادية والقانونية لعامي 2003 و2010، وجائزة أفضل كتاب اقتصادي عام 2002 من أكاديمية البحث العلمي، وأفضل كتاب في العلوم الاجتماعية في مصر عام 2015 من معرض القاهرة للكتاب، وذلك بالطبع لأن هذا الكتاب تحديداً هو "اقتصاديات جماعة الإخوان المسلمين في مصر والعالم". وقد حظي بالتكريم حين توافق موضوع بحثه مع الهوى الرسمي، ثم نال نفسُه السجن حين وصل بمنهجيته نفسها إلى ما هو ضد التوجه الرسمي.
وعلى الرغم من أن عبد الخالق فاروق لم يتوقف، منذ سنوات طوال، عن الكتابة برؤاه نفسها التي تنتقد جذرياً التحول الاقتصادي للرأسمالية في مصر، والذي يُرجعه إلى عام 1974، إلا أنه لم يتعرّض أبداً للسجن بسبب كتبه، خصوصا أنه في النهاية ابن العمل في المؤسسات الحكومية منذ مكتب رئيس الوزراء الأسبق، فؤاد محيي الدين، إلا أن العصر الحالي يكرّر أنه يخرق كل الخطوط الحمراء القديمة، وتم الإلغاء التام لصيغة المعارضة المقبولة، أو المسكوت عنها. لا مزيد من أحضان صفوت الشريف (رئيس مجلس الشورى ولجنة الأحزاب في عهد مبارك)، أو ابتسامات أسامة الباز (مستشار مبارك سابقا)، وتم قطع كل خطوط الاتصال بالأحزاب التي كانت موجودة سابقاً ولو على مستوى ضباط أمن الدولة. لا عصا وجزرة، بل فقط عصا السجن الذي يتّسع كل يوم.
ويتسق ذلك مع التغير التام بالخطاب الرسمي العلني، فبينما اعتمدت الأنظمة السابقة على المغازلات الشعبوية بشأن مدى غنى مصر، بل وقدرة ثرواتها الهائلة على منحها دوراً مؤثّراً في العالم، أصبح الخطاب الحالي يكرّر على الناس أهمية قبول واقع أن البلد فقير وأنتم فقراء. وعلى الرغم من أني، بشكل شخصي، لا أحبذ الشعبويات الخادعة، فإنه حتى لو قبلنا أن مصر بلد فقير، فإن هذا يجب أن ينعكس على أنماط الإنفاق الحكومي كما يسرد فاروق في كتابه، على سبيل المثال، عدد السيارات الحكومية وكلفتها.
ومن اللافت هنا أن مثقفين مصريين عديدين ملأوا الدنيا احتجاجاً ضد مخاوفهم من تضييق محمد مرسي والإخوان المسلمين على الحريات الشخصية وحريات التعبير (وهذا حقهم وقتها سواء كمواطنين، أو بالنظر لسجل تجارب الإسلاميين غير المشرّف في هذه الملفات) لم نسمع لهم صوتاً يتضامن مع مصادرة كتاب وسجن مؤلف، لتنضم هذه إلى كومة المفارقات والأسئلة في واقعة "إطفاء" الأفكار.