الإبداع والتكريم

الإبداع والتكريم

27 أكتوبر 2018
+ الخط -
حدث في يوم أن أطللت من نافذتي ورأيت مبدعا أثار انتباهي كثيرا، هيّأ المكان وتأمل في الطبيعة، ثم أخذ حقيبته وأخرج منها أدواته: أقلام وفرشاة وصحون.. أخذ في مزج الأصباغ، وبين حين وحين يتوقف ليتأمل قليلا، وسرعان ما يعود إلى عمله الأول، ألصق القماش الأبيض بإطار خشبي بدبابيس قبل أن يطليه بالغران، وتركه يجفّ بينما كان يتجول في المكان كالمجنون، عاد إلى اللوحة البيضاء، فأخذ قلمه، وبعناية فائقة تدل على خبرته الفنية أخد يرسم. وبعد أنّ خطّ ما خطّه أخذ الفرشات ورتبها أمامه من الصغيرة إلى المتوسطة إلى الكبيرة، بعدها أخذ في التلوين، وبين الفينة والفينة يبتعد عن اللوحة فيتأملها قبل أن يأخذ الفرشاة المناسبة لمواصلة عمله الذي أراه مضنيا ويجد فيه متعته ربما.
تعبت من المتابعة لعمله، فجلست أستريح، وبعد ساعةٍ، وجدت اللوحة البيضاء متشحةً بما جعلها أسيرة أخَّاذة، فمن بعيد يلوح لي منها وجه طفل شاحبٍ عليه دمعة، أشعر بها دافئة، أنتظر سقوطها أو مسحها، فتذكرت ما يعانيه الأطفال في مشارق الأرض ومغاربها ونحن عن أحوالهم ساهون ولاهون، وكأنّ الله خصّ هذا الفنان بتذكيرنا بواجباتنا وما تقتضيه إنسانيتنا إزاء بعضنا.
عادت بي الذاكرة إلى تخيّل طفولة هذا الفنان، فتصوّرته وهو طفل موهوب، يحاول أن يشق طريقه في المجال الفني وأبوه يعارضه في ذلك، فيمزق أوراقه ويكسر أدواته، وسرعان ما يتحدّاه فيعود إلى هوايته، وتمر السنون، فيصير فنانا يتحدّث باللون والشكل، فيخاطب الناس في المشارق والمغارب، فيفهمون رسالته، وعاد بي التفكير في حاله، وقد وصل ما وصل إليه في مجال الإبداع، لأتساءل عن قيمته بيننا، وفي مجتمع طغا عليه الاستهلاك المادي، فصارت الراقصة بألف فنان، وصار طبق الشواء خيراً من عشر لوحات مهما كان موضوعها وفنيتها.
يستحق المبدع التكريم، ولن ينكر ذلك سوى الجاهل الذي لا يعرف أبعاد الإنسانية بروحها وجوهرها، فالجهود المتميزة والمتواصلة والحاملة الهموم الوطنية والإنسانية والبيئية يستحق أصحابها التكريم، اعترافا بقيمتهم وتشجيعا لهم ماديا ومعنويا، وإظهارا لمنزلة هذا المبدع أو ذاك وفق معايير موضوعية .
فالتكريم للمبدع في شتى المجالات، التفاتة إنسانية نبيلة تشيع التقدير في نفسه، فيشعر بأنّ جهوده فعلا مثمرة وجديرة بالاحتفاء والتكريم والتقدير من مؤسساتٍ أو أشخاصٍ مثقفين، يعرفون قيمة الإبداع والثقافة في التقدم والانعتاق ونصرة قضايا الإنسانية.
التكريم شهادة عرفان، ولمسة وجدان والتفاتة يستحقها الفنان، باعتباره شخصا يحاول أن يتحدث بلسان كل الناس، وهم يعبّرون عن أحزانهم وأفراحهم وتطلعاتهم.
لحسن ملواني
لحسن ملواني
لحسن ملواني
كاتب مغربي. يعبّر عن نفسه بالقول "الإبداع حياة".
لحسن ملواني