لا تتكلم في السياسة

لا تتكلم في السياسة

26 أكتوبر 2018
+ الخط -
"لا تتكلم بالسياسة.. ابتعد عن السياسة"، هذه من نصائح وتوجيهات سمعناها صغاراً، وما زلنا نسمعها كباراً، فللسياسة في بلادنا طريقان، وربما ثلاثة، المداهنة والتزلف للفساد والطغيان، وبيع الضمير والأخلاق، وطريق المتاعب والشقاء والاستهداف، وقد يجد المرء نفسه أمام طريق ثالث، أو قد يجد نفسه فيه، وهو طريق الهلاك، برصاصة أو منشار، أو حتى بتذويب الجسد في حمض الأسيد.
تداعى إلي هذا الخاطر، وأنا أتلقى تنبيهات وتحذيرات من ناصحين، محبين ومشفقين، أن أبتعد عن الكتابة والخوض في قضايا "حسّاسة"، مثل جريمة اغتيال الصحافي السعودي، جمال خاشقجي، رحمه الله. المشكلة، أني ربما اخترت التخصص الخاطئ في دراستي الجامعية، فقد درست العلوم السياسية والعلاقات الدولية، ولا أعرف تخصّصاً غيرهما، ومن ثمَّ فقد مضى وقت التراجع، اللهم إلا أن أبيع ضميري. لا شكَّ أن ثمَّة منطقاً في نصح الناصحين، إلا أن المنطق في مسألةٍ لا يعني أنه سليم دوماً من الناحية القِيَمِيَّةِ.
في سياق منطق التحذير، فإن التاريخ والواقع شاهدان، فكم من صحافيٍّ وكم من مُتَسَيِّسٍ وكم من مفكرٍ في عالمنا العربي، وفي العالم الثالث عموماً، وما وراءه، ضُيِّقَ عليهم، أو جرى اعتقالهم، أو تعذيبهم، أو حتى اغتيالهم. وقع هذا في السعودية وسورية والإمارات ومصر والمغرب وإيران، كما وقع في المكسيك وروسيا وأوكرانيا والصين، وغيرها دول كثيرة. بل حتى في "العالم الحرِّ"، كم من عربيٍّ يعمل في الصحافة، أو أن له رأياً أو موقفاً سياسياً لا يتفق مع مواقف زاعمي تقديس حرية الكلمة والموقف، تمَّ سحب تأشيرات دخولهم، أو منعها عنهم!؟ أعرف، مثلاً، زملاء، ومن كل الخلفيات الفكرية والسياسية، تمَّ إنزالهم عن طائرات متجهة إلى الولايات المتحدة، على الرغم من أنهم كانوا يحملون تأشيرات دخول، أو أنهم يتمتعون بجنسيات أوروبيةٍ معفاة من التأشيرة.
في أميركا نفسها، "منارة الحرية" في العالم، يُستهدف عرب كثيرون، لا لجرائم ارتكبوها، 
وإنما لنشاطهم السياسي والفكري والإعلامي، المحميّ أصلا بالدستور الأميركي. لا أريد أن أشير إلى أسماء بعينها، وذلك كما لم أشر، منعاً للإحراج، إلى أسماء زملاء جرى منعهم من دخول الولايات المتحدة. ولكن أشير هنا إلى تجربة ومعاناة شخصية في بلاد "منارة الحرية"، حيث تمَّ تعطيل جنسيتي اثني عشر عاما تقريباً، لا لشيء إلا لنشاط سياسيٍّ وأكاديميٍّ وثقافيٍّ مَدَنِّيٍ أقوم به من أجل قضيتي الأولى: فلسطين. الأصل أن عملي هذا محميٌّ بالتعديل الدستوري الأول، ولكن ثمّة من كان له رأي مخالف في بعض دوائر الحكومة، بتحريض جَلِيٍّ من اللوبي الصهيوني الذي يعمل ليل نهار على تشويه سمعة مئات أمثالي وصورتهم، ومن كل الخلفيات والأعراق والأديان، بمن في ذلك يهود يرفضون اختطاف دينهم باسم الصهيونية، أو دعم احتلال إسرائيل فلسطين ومحاولاتها إخضاع شعبها. لكن في أميركا، وعلى عكس كثير من بلادنا العربية، ثَّمَةَ بقايا عدل، كما أن ثمَّةَ قضاء، له القدرة على أن يكون نزيهاً مستقلاً إن أراد. ومن ثمَّ، فإن من هو مثلي يملك فرصة حقيقية للانتصار في معركة عادلة على أرضية دستورية، وهذا ما كان في قضيتي. ربما تأخرت العدالة، ولكنها أتت في المحصلة.
هذا يقود إلى السياق الثاني من المقال والذي يجادل أن المنطق في مسألة لا يعني بالضرورة صحته من ناحية قِيَمِيَّةٍ. المفكر أو السياسيّ أو الكاتب أو الصحافيّ، كما عالم الدين، تقع على عواتقهم مسؤولية أخلاقية كبرى. إنهم صوت مجتمعاتهم وضميرها. إنهم مستأمنون على حقوق الشعوب وقضاياها، كما أنهم مستأمنون على مصالح دولهم، لا أنظمتها. إنهم صوت الحقيقة، وصوت العدل، وصوت من لا صوت لهم من المظلومين، أو هكذا يَفْتَرِضُ فيهم شرف المهنة، ومجال التخصص، ومسؤولية الكلمة. وكل من يبيع كلمته أو علمه في مقابل عطايا السلطان الجائر، أو طمعاً في رضا سلطة غاشمة، فإنه إنما يمارس خيانةً كبرى، تماماً كما قد يخون الطبيب مريضه. الخيانة واحدة، حتى وإن اختلفت سياقاتها ومرتكبوها.
إن أحداً لم يَغْصِب أحداً على أن يتخصّص في مهنِ المتاعب، كعلم الدين أو الفكر أو السياسة 
أو الصحافة. هذه تخصصات راقية وخطيرة في آن. ولا ينبغي لأحدٍ أوتي سلطة البيان أن يوظفها في الدفاع عن الظلم والظالم وتجميلهما، بدل الدفاع عن المظلوم ومظلمته. قناعتي أن من طلب المغنم، وحسب، في مهنته، ورفض المغرم فيها، لا يستحق أن يكون عالماً أو مفكراً أو سياسياً أو صحافياً. هؤلاء مرتزقة يَتَرَزَّقونَ ببيانهم وسطورهم، وهم لا يختلفون عمّن يَتَرَزَّقونَ بالنصب والاحتيال.
إننا ننتمي إلى شعوب مظلومة مقهورة، استباح الطغاة والغزاة حرمتها وأعراضها، ودمروا بلادها وسحقوها، ومن حق أمتنا علينا، بل واجبنا نحوها ونحو بلداننا وأجيالنا القادمة، أن ننافح عنهم أجمعين، بما تعلمناه وتخصصنا فيه. بغير ذلك، نكون خونةً مع الخائنين، وفاسدين مع الفاسدين، ومساحيق تجميل لوجوه بشعة. قد يكون هناك ثمن شخصي ندفعه، وكثيرون منا دفعوه، ويدفعونه الآن، وسيدفعونه غداً، لكنه ثمنٌ مشرّفٌ أن تعاني من أجل نهضة أمتك، ومن أجل مستقبل أبنائها. من أجلِ ذلك، ليكن لسان حالنا: فليكسر قلم أسال مداده دفاعاً عن الظلم والظلام، وليقطع لسان لا ينطق إلا بتزلفٍ لمستبدٍّ وتسويغاً لاستبداده. ونعم، سنبقى نتكلم في السياسة ونعمل فيها، مهما كان الثمن علينا، في سبيل تحرير إرادة شعوبنا وأمتنا، حتى ننعتق جميعاً من هذا الواقع الآسن المخزي الذي نعيشه ونكابده. الحرية حق للبشر جميعاً، وهي ليست منحةً من أحد، إلا من الخالق سبحانه وتعالى.