عن خاشقجي وعباس والمدهون

عن خاشقجي وعباس والمدهون

26 أكتوبر 2018

محمود عباس وجمال خاشقجي وربعي المدهون

+ الخط -
تشاء الأقدار، ولا رادّ للأقدار إن شاءت، أن تكون لكاتب هذه السطور علاقة بعيدة أو قريبة مع ثلاثة أشخاص وردت أسماؤهم في أخبار الأيام الماضية، بتردّدات متفاوتة، ومقامات متباينة، ولكن في سياق حدث واحد، هز العالم من أقصاه إلى أقصاه، والحديث هنا عن جريمة اغتيال الصحافي جمال خاشقجي.
البطل في أحداث أكتوبر/ تشرين الأول الجاري هو المغفور له بإذن الله، زميل المهنة، جمال خاشقجي، الذي تعرفت إليه عندما كان رئيساً لتحرير صحيفة آراب نيوز السعودية، الناطقة بالإنكليزية، وكان يتردّد آنذاك على مقر الشركة السعودية للأبحاث والتسويق، في حي هولبورن اللندني، حيث كنت أعمل محرراً في صحيفة الشرق الأوسط. وليس من باب اذكروا محاسن موتاكم، وحسب، ولكن إنصافا للرجل الذي مات مغدوراً، ولم يكرم حتى في دفن جثمانه حتى الساعة، فقد عرفت في خاشقجي صفاتٍ لم تكن في سعوديين آخرين ممن ترأسوا المؤسسات الصحافية السعودية في العاصمة البريطانية. لم يُعرف عنه تردّده على علب الليل، كما كان ديدن كثيرين من رواد عاصمة الضباب، ولا كان زير نساء مثل بعض أقرانه ممن عَزفوا عن الزواج، بينما مَلكت أيمانهم مثنى وثلاث ورباع. كان خاشقجي رب عائلة ملتزما، مهذّب النفس، صحافياً مهنياً، خَبِر مهنة المتاعب في الميادين، فكان المراسل، والكاتب، والمصوّر أحياناً، وبالطبع كان رئيس تحرير لا تسهو له عين، ولا تُصم له أذن، قضى مُدافعاً نزيهاً عن بلاده، حالماَ بصحافة أكثر حريةً، وبوطن أكثر عدالةً تسوده المساواة والديمقراطية، والحقوق الإنسانية.
وعلى ذكر العدالة، يقفز وسط المشهد الرئيس الفلسطيني محمود عباس، الذي هب لنجدة العربية السعودية، وإنقاذها من براثن مؤامرة عالمية تُحاك لها، من واشنطن إلى أنقرة، ومن أًتوا إلى الدوحة. لم يشأ التمهل والتأني، قبل الإدلاء بسطله، مًشيداً بـ"العدالة والقيم والمبادئ السعودية"، ومؤيداً الرياض. في ماذا؟ لا ندري. ربما في تأييد الاغتيال والتقطيع؟ وبالطبع هناك، من السَحّيجة، ممن لا يفوّتون جنازة ليشبعوا فيها ردحاً ومدحاً، فسارعوا إلى تفسير موقف الرئيس الشجاع، بزعم أن في ذلك تعبيراً عن موقف فلسطيني لا يُنكر دعم المملكة السخي لقضيتهم. ولا يقبل هؤلاء نصيحة "النأي بالنفس" عن مياهٍ عكرةٍ، وجريمةٍ بشعة، بزعم ضرورة اتخاذ موقف شجاع، تقديراً للكرم السعودي الذي يُقدم للشعب الفلسطيني مساعدات بملايين الدولارات. ومن نافلة القول إن هؤلاء لا يدافعون، في هذا الموقف اللاأخلاقي، واللاإنساني، عن مصالح الشعب الفلسطيني، بل عن مصالحهم الشخصية، لضمان استمرار ما يصب في حساباتهم البنكية من تحويلات، يسمع عامة الشعب جرشها، ولا يرى من طحينها شيئاً.
ما كان للرئيس الفلسطيني التبرّع بهذا الموقف، غير المُضطر له، وكان عليه أن ينتظر حتى تنجلي الصورة، أو على الأقل حتى يُدفن جثمان الضحية، وهل هناك من يشعر بآلام الضحية أكثر من الفلسطيني، أم أن "المصالح" الفلسطينية باتت أعلى من القيم الإنسانية؟ أم كأنه صار للحرّة أن تأكل من ثدييها، إن خافت من الجوع؟
ستظل القيم الإنسانية أسمى من لقمة العيش، هذا ما عبر عنه الموقف المُشرّف للزميل، الروائي الفلسطيني، ربعي المدهون، إذ لم تحتمل أخلاقه المساومة على دم خاشقجي، ولم تطق روحه الشّفافة بشاعة الفعل، فاتخذ موقفه الإنساني الخلاق، مستقيلاً من صحيفة الشرق الأوسط السعودية. وقال الصديق أبو وسام إن "2 من أكتوبر وضع حدًّا لكل شيء. كان مقتل جمال صادمًا، مُفزعًا، مرعبًا، موجعًا، مفجعًا، مؤلمًا، بشعًا، وغير مسبوق". وبذلك قدّم المدهون إنسانيته على لقمة العيش، وفاز بجائزة الضمير الحي، والإنسانية الرفيعة، وهي بلا شك أعظم، حتى من الجائزة العالمية للرواية العربية (بوكر) التي نالها باستحقاق قبل عامين.
قضى جمال، رحمه الله مغدوراً. وانتصر المدهون، حفظه الله، لما تبقى من إنسانيتنا. واختار آخرون، سامحهم الله، فُتات اللُقم على أسمى القيم.
AE03ED80-FBD8-4FF6-84BD-F58B9F6BBC73
نواف التميمي
أستاذ مساعد في برنامج الصحافة بمعهد الدوحة للدراسات العليا منذ العام 2017. حاصل على درجة الدكتوراه من جامعة غرب لندن في المملكة المتحدة. له ما يزيد عن 25 سنة من الخبرة المهنية والأكاديمية. يعمل حالياً على دراسات تتعلق بالإعلام وعلاقته بالمجال العام والمشاركة السياسية، وكذلك الأساليب والأدوات الجديدة في توجيه الرأي العام وهندسة الجمهور.