خاشقجي ومقام الإنسان في نظم الطغيان

خاشقجي ومقام الإنسان في نظم الطغيان

26 أكتوبر 2018
+ الخط -
تستخفُّ نظم الاستبداد بالإنسان أيما استخفاف، ولا تقيم له وزنا، لا في حياته ولا في ممارسة مناشطه وحرياته. إنها تعتبر المواطن من عبيدها، تتصرف فيه كيفما شاءت، وهو يقع تحت سلطانها، تفعل به ما أرادت. ومن ثمّ فإن أكثر الكلمات استنفارا للمستبد وزبانيته، الحديث عن حقوق الإنسان، فإن كلمة الحق تثير غضب الاستبداد، فتتخذ قوى الطغيان موقفا من كل شخص يقولها، سواء كان أحد مواطنيها، وقد فرّ بعد مطاردتهم، أو من أي نظام آخر يعترض أو يتحفظ. المهم أن كلمة حق هذه تثير كل نوازع الوحشية في تلك النظم التي تعتبر المطالبة بالحقوق بداية لها لممارسة كل صنوف الاستباحة في حق من يطالب بحقوقه.
أتذكّر هنا أنه في مصر في عهد حسني مبارك، تجرأ طال وركن سيارته قرب موكب رئيس مجلس الشعب، وأن من كانوا يشرفون على "التشريفة"، ومنهم صاحب رتبة أمنية كبيرة، قد بلغهم أن شابا صغيرا، طالبا في الجامعة الأميركية، صرخ فيه عسكري ألا يركن في هذا المكان، فرد عليه قائلا إن "هذا حقي"، فأطلق العسكري ضحكته الساخرة المطولة، واستهزأ به ثم قال له "بتقول إيه يا روح أمك..، حقي، أنت مجنون ولا إيه"، ثم هرول مسرعا إلى الرتبة الكبيرة، يخبره بأن "هذا الشخص يقول حقي، ده مجنون يا باشا". لم يتردّد صاحب الرتبة الكبيرة لحظة في أن يصدر أمره بطلب مستشفى الأمراض العقلية (مستشفى المجانين) وفعلها، وجاءت السيارة لتأخذه لإيداعه في هذا المستشفى. وظل الشاب فيه شهورا قبل أن يتمكن من الهرب. وتترجم هذه القصة الحديث عن الحقوق كأنها ضرب بالخروج عن المعقول، وارتكاب فعل الجنون.
هكذا تتصرّف أنظمة المستبدين مع مواطنها، إنه ليس الإنسان فيمكنه أن يطالب بحقه، وإذا فعل فهو المجنون، وحقت عليه أن تقع على رأسه كل نوازع الانتقام وصنوفه التي لا تخطر على 
بال أو لا تخطر عليه. جمال خاشقجي مواطن سعودي كان يعيش في بلده بأمان، بعض الأمان المعتاد، إلا أن المستبد أتى ليعتقل هذا ويطارد هذا ويضيّق على هذا، فما كان منه إلا أن أحس بأن استمراره في ممارسته بعض من حقوقه في التعبير سيجعله في خطر. ترك الوطن لهم، ولكنه كتب معبرا عن حقه في التعبير لا يملك إلا قلمه، ينتقد النظام انتقادا متزنا لا مبالغة فيه، يتسم بالأدب الجم، والحسابات الدقيقة، لكن هذا لا يعجب المستبد وزبانيته، ما أنتم إلا عبيد إحساناتنا، ما أنتم إلا ميراث وعقار لنا، من جملة ما يملكون، وما فيه يتسافهون، فالسفيه ليس من يسرف فقط في إنفاق ماله بلا حساب، ولكن من يتصرّف في خلق الله باستخفاف، وبلا أدنى حساب.
يكتب خاشقجي في "واشنطن بوست" مقالا تلو المقال، لكن لسان حال المستبد البلطجي يحدّثه: أتظن أنك تفلت من انتقامي، وبدأت خيوط لجريمة قتل غبية، يمارسها حمقى في خدمة سيدهم الذي يتباهى بصلفه وغشمه، قرّر هؤلاء أن يستدرجوه إلى قنصلية بلد ثالث، وفيها وتحت غطاء الحصانة، دخل فريق الإجرام ليمارس خطة الانتقام، طرحوه أرضا ونشروه نشرا، قطّعوه، وفق الروايات الشائعة، مارسوا ذلك كله بأمر المستبد الغاشم وبعلمه، وهو الذي يتلذذ في الانتقام من ضحيته، كما تشير القرائن، ظنا منه أنه لن يقدر عليه أحد، وأنه لن يواجهه أحد، يفعل ذلك في لعبةٍ يتلهى بها، لعبة القتل الدنيء، وممارسة الانتقام الفاجر، ولكن الدنيا قامت ولم تقعد. هكذا كان الأمر كاشفا فاضحا.
وهنا قام الزبانية من مساندين له، ومن هؤلاء الذين تفننوا في قتل الكاتب خاشقجي مجتمعين ومتفرقين، يأتي الأمر ليضيق الخناق على القتلة ومن أمرهم، ها هو خاشقجي يمثل بالنسبة للنظام السعودي المستبد خالد سعيد في نظام مبارك المخلوع، وبوعزيزي في نظام زين العابدين، أيحسب أنه لن يقدر عليه أحد؟
إنها القضية التي تطورت، وملأت الدنيا. أراد المستبد الفاشي أن يقتله، ويقصف قلمه، فكتبت عن جمال خاشقجي آلاف الأقلام، بينما خرج علماء دين يبرّرون، طالت لحاهم، وتحدثوا حديث النفاق، مجاملة لطاغية عاتٍ مستبد قاتل، فهو في عرف أحدهم "محدث ملهم" هكذا، وهو عند بعضهم يعترض على اهتمام العالم بهذا الفرد، وكأن هذا الشيخ الذي ينافق لم تمر عليه الآية 
الكريمة "من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا". ما بال هؤلاء يطمسون حتى الآيات القرآنية، من أجل مستبد غاشم، يتلهى بالقتل ويستخفّ بالنفس، ويمثّل بكيان إنسان خلقه الله مكرما، ولكن هؤلاء من علماء السلاطين يقتاتون من فتاتهم، ويبيعون دينهم، كل أفعاله لديهم مبررة، هو فوق الحساب لا يطاوله عقاب، ولكن هذه المرة ومن غير حساب، قام الناس جميعا ليثأروا لخاشقجي في مواجهة هؤلاء الذين ينافقون ويبرّرون ويزيفون الحقائق ويزوّرون.
ما بال هؤلاء يستخفّون بالنفس التي هي أعظم عند الله من الكعبة، وأشد حرمة منها؟ ما بال هؤلاء يزهقون النفس الإنسانية بلا جريرة؟ ما بال هؤلاء يعتبرون أنفسهم آلهةً فوق الحساب؟ اصدعوا في وجوههم، واحثوا التراب في وجوه مداحيهم ومنافقيهم، اكتبوا أن هؤلاء ليسوا من طينة البشر، لكنهم وحوش كاسرة متجبّرة أطلقت على نفوسٍ مطمئنة مسالمة. ولكن المستبد وزبانيته وجوقة منافقيه لم يكونوا يحسبون حساب أصوات هادرة، تأتي من كل مكان في الدنيا كبارا وصغارا، إنه القاتل الذي يستخفّ بالإنسان.
يا هؤلاء، من تتحدثون عن هذا الوحش الكاسر بأرقى الأوصاف. يا هؤلاء، من تنافقوه أنتم بفعلكم هذا لستم إلا "مشروع مقتول"، حينما تدلّلون وحشا مطلقا في البرّية، ينتقم ويقتل ويطارد، هو قاتلكم.. يا من ساعدتموه، إنه يضحي بكم حتى ينقذ نفسه، وقد آن الأوان أن يطرد ويطارد من مقام الإنسانية، أمن أجل كرسي السلطان أراد أن يقتل الإنسان ويضحي بالمزيد؟ على كل إنسان أن ينتفض لمواجهة هذا الطغيان. حان الوقت لأن تنتفض الشعوب ضد مستبديها في كل مكان، وإلا سنكون ذلك المقتول، سنكون خاشقجي نقطع بالمناشير، آن الأوان أن نواجه الطاغيتين، السيسي وابن سلمان، والطاغية في كل مكان، حتى نحفظ كرامة كل إنسان.
ECE602C0-DB35-414B-9572-17B675CE3C2A
سيف الدين عبد الفتاح

كاتب وباحث مصري، مواليد 1954، أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة، من مؤلفاته "في النظرية السياسية من منظور إسلامي"، و" التجديد السياسي والواقع العربي المعاصر.. رؤية إسلامية".