جمال خاشقجي رهينة الانسداد اللبناني المديد

جمال خاشقجي رهينة الانسداد اللبناني المديد

25 أكتوبر 2018
+ الخط -
تجول الأقنعة السياسية في لبنان بمزاج عال، وتتوزّع على الوجوه بحسب الأدوار. بالأمس، كان الممانعون هم المتَّهمين بالتورّط في مقتلاتٍ واغتيالات: تفجير موكب رفيق الحريري منذ عقد ونيّف، وفي سياقه، قتل شخصيات معادية لحزب الله والوصاية السورية، ملحمة 7 مايو/ أيار 2008، المشاركة مع بشّار في قتل الشعب السوري.. وكله مكلَّل بغار المقاومة ضد الإمبريالية والصهيونية؛ وردودٍ على الاتهامات بالقتل، بأن الأخيرة، أي الاتهامات، إنما هي مؤامرة نظمتها هاتان الإمبريالية والصهيونية، العاملتَان على إنهاء كل قرارٍ مستقلٍّ يطمح لبناء مقاومةٍ باسلةٍ ضدهما. تكذيب فوق تكذيب، فوق سردياتٍ خياليةٍ، و"أهداف مقدّسة"، لا يطاولها الحاجب: كانت هذه أدوات التنصّل من الجرائم التي ارتكبتها قوات الممانعة ضد اللبنانيين والسوريين، وأيضا الفلسطينيين. وضميرها لا نعرف إذا كان مرتاحاً، لكن الأكيد أن نشوات "الانتصارات" المكرَّرة حولت النوايا السيئة إلى براءة سياسية، بالكاد تحتاج إلى إعلامٍ عاقلٍ يوجّهها.
وهكذا كان: إعلام ذكي ودولة مرجعية ذات قومية فارسية متدثّرة بالدين. حتى هنا، ثمّة تماسك داخلي في المنطق، قوامه أن القتلى لن يذهبوا سدى، طالما أن مستقبل الممانعة في المنطقة بات في الجيب. ولا مبرّر للضمير في هذه الحالة، فالسعادة تلازم وجوه الممانعين، إذ يقترن الحق بالقوة. أما الآن، بعد استشهاد جمال خاشقجي، فصاروا أكثر سعادةً من ذي قبل، وأكثر وثوقا بالإعلام الغربي، ومعلوماته، بعدما كانوا يصفونه بـ"الإسرائيلي". صحيحٌ أنهم لا يعتبرون خاشقجي "تشي غيفارا" الشرق، وأن موديل معارضته لا يستوي مع صورة "مناضلهم" حامل السلاح، أينما غرزوا. ولكن اغتياله على يد السعودية رفع الابتسامات، فتدفّقت الآراء، في الميديا الممانعة وبين المتواصلين افتراضياً، وظهرت الأسنان الطويلة، الشامتة، التي لا تريد أن تقول إلا جملةً واحدة، تردّدها بعبارات مختلفة: ألم نقل لكم إنها مملكة الشرّ؟ ألم ننبّهكم إلى إجرامهم في الداخل وفي الخارج؟ ومؤامرة إسقاط بشار، ألم تتثبت لكم الآن؟ ألم يدعمها السعوديون بمالهم؟ بعد الآن، هل يمكن القول إن الثورة السورية طاهرة بريئة؟
الأقنعة ليست أقل تداولاً في المعسكر المقابل، الداعي، من زمان، إلى قيام دولةٍ مقابل مقاومة، وحشد الجماهير من أجله، وجذب الكتاب والصحافيين حاملي الرأي المناهض للنظام السوري 
ولحزب الله. في ذاك الزمان، عندما بدأت الجرائم تتدرّج، من رفيق الحريري انتهاء بالشعب السوري، كان شعار الحرية والقانون والمؤسسات الديمقراطية.. إلخ. أما بعد خاشقجي، فقد لاكت الألسنة القضية، فأخرجت وجهها الآخر الذي عُرف القليل عنه. الشخصيات السنّية المحسوبة على المملكة السعودية، من المفتي إلى رؤساء وزراء حاليين وسابقين، كلهم استعادوا أسطوانة الممانعة نفسها، عندما كانت الأخيرة متّهمة بالجرائم: من أن اتهام المملكة بقتل خاشقجي ليس سوى مؤامرة حاقدة وخبيثة، ابتزاز سياسي، ينال كل المسلمين في العالم.. إلخ.
الوسائل الإعلامية الواقفة على هذه الضفة كانت تقرّر مصير رأي كاتبها. من السكوت التام عن الموضوع بأسره، وتناول موضوعاتٍ أخرى. وهذا ما يتفهّمه القارئ بعمق؛ فالإعلام اللبناني، مثل الاقتصاد اللبناني، لا يملك تمويلا ذاتياً، حتى في عزّ ازدهاره (من يتذكّر أيام "العصر الذهبي" لحرية الصحافة اللبنانية، وكانت تموّلها وقتها دول "الصمود والتصدّي" التي ترتكب الجرائم المسكوت عنها؟). ولكن ما ليس مقنعاً على الإطلاق حماسة زملائهم الآخرين للكتابة عن التهمة الموجّهة إلى السعودية، وكأنهم يعيدون ويزيدون بدورهم العبارات نفسها التي عُرِفت بها الممانعة: مؤامرة، انتظار التحقيق القضائي، نفي الجريمة، عظمة المملكة وحكامها، وعلى رأسهم محمد بن سلمان.. إلخ.
وأطرف ما قرأته، في هذا الصدد، مقالاً لأستاذ جامعي، يتمتَّع، بحكم وظيفته، باستقلاليةٍ عن الإعلام اللبناني، ويتباهى بها؛ إذ يدين السعودية على جريمتها، ويختم مقاله بالقول "من الطبيعي أن تُحسب مقالتي هذه على مريدي قطر في تلك الحرب. لذا، ودرءاً لذلك مصحوباً بالتصنيف والاتهام، يجدر القول فقط إن سياسات قطر وأهدافها أسوأ وأكثر عبثيةً من سياسات غريمتها"... أما الذين كان حظهم قوياً في الكتابة في صحافةٍ قطريةٍ، فأخذوا مجدهم في تلك الحرية، وفرحوا بها.
وكل هذا للتبيان أن لبنان يخرّب المواقف، يُفسدها، تماماً كما يخرّب لبنان نفسه، من دون 
نقصان. ليس من موقفٍ، أو تظاهرة أو اعتصام أو أي نشاطٍ عام، إلا ويكون اللغم قد دُسَّ في جيبه، وبات مشكوكاً بتبعيته لهذا أو ذاك من الممْسكين برقاب البلاد. كل شيء ملغومٌ في لبنان، مغشوش. لكل شيء ثمنُه، السياسي أو المالي. فهل يمكن مثلاً تصوُّر تجمع للصحافيين والكتاب اللبنانيين يدور كل اهتمامه حول حقوقهم، أو حماية حريتهم وحياتهم؟ أو الوقوف صفاً واحداً لإدانة جريمة تعنيهم مباشرةً، كأصحاب معلومةٍ ورأي؟ في عمليةٍ لا تحتاج بالضرورة إلى الانصهار، إنما إلى الاتفاق الأدنى حول شؤون مهنية معيشة؟ هذا نقاشٌ، لو يحصل، يفكِّك البنية الاقتصادية التي تقوم عليها المهنة. وربما هذا أمرٌ غير مستحب. فلتُتْرك الأمور الحساسة للجمعيات الصحافية العالمية ومنظمات حقوق الإنسان.
من جهة أخرى، تكشف جريمة خاشقجي أن الاعتماد على المملكة السعودية لمحاربة إيران ومحور الممانعة ليس مأمون الجوانب، ولا هو مضمون. بالعكس، حتى إشعار آخر، المبارزة الإيرانية السعودية هي لصالح الأولى، إيران. مع محمد بن سلمان، صار واضحاً أن السعودية نزِقة، تتغابى، لا جلد لها، ولا حصافة. تخبّط عشوائي، تلك هي سياستها، كأنها مصابةٌ بذعر الوقت. فيما إيران، الحاذقة، الصبورة، أقنِعتها مقنعةٌ، ولها حتى الآن ملء الوقت، أو هكذا على الأقل تتصرّف. مع أن الاثنتين، المملكة والجمهورية الإسلاميتَين، تشبهان بعضهما. والاثنتان لا تؤمنان بغير مجالهما الحيوي في الإقليم، وربما في العالم.
بين الفلكَين الشريرَين، الإيراني والسعودي، يدور لبنان. بين مملكة الشرّ وجمهورية المليشيات المذهبية؛ لعلّه الانسداد السياسي المديد، جاءت قضية خاشقجي لتقيس علو أسواره الإسمنتية.