الجميلة والفالت والعيل الأهطل

الجميلة والفالت والعيل الأهطل

25 أكتوبر 2018
+ الخط -
لماذا يخاف الحاكم المنقلب من الجميع، على الرغم مما في يديه من القوة والمَنَعة؟ تحيّرت في ذلك طويلا، وأحيانا كنت لا أصدّق كل دواعي الخوف المطروحة من المناوئين والمعارضين، بل كنت أعتبرها مجرّد إضفاء بُعد أسطوري على الخاطف أو المنقلب، وخصوصا بعد أن تكثر التأويلات وتختلط بالشائعات، ما يُكسب المنقلب غموضا محبّبا عند البسطاء والشعبويين وأنصاف المتعلمين، والمتعلمين أيضا تعليما عاليا، فالأساطير تلعب بقوةٍ في الخفاء والتعمية خصوصا، وتكتسب مزيدا من حضورها الخاص، وخصوصا في دهاليز الانقلابات والحكم.
كل ما تم اختطافه غزير على صاحبه، حتى وإن أخذه بحيلةٍ أو بجوْر أو حتى بقتل، هو قلق طبيعي على ما تم اختطافه، وقلق أيضا من أجل تجميله، ولو بالدهانات والأكاذيب إن استطاع، ولو حتى بالمشروعات الوهمية في الصحراء والجبال، من أجل تجميل ملكه المخطوف في عيون المحكومين والشعب، كي يعطي لنفسه القبول وحسن الأهلية، وكي يبتلع الناسُ وجوده مرغمين، ولو حتى بالكلام المعسول والطبطبة على ظهور الأطفال، ولا مانع أيضا من الدموع الحارة المكتومة في العيون.
خاطف الحكم إنسان، وله مشاعر ودموع وطائرات ودبابات وأكاذيب لا تزال في الدواليب في انتظار كل مناسبة. خاطف الملك إنسانٌ خائفٌ جدا على ما خطف، ولا يثق بمن حوله أبدا، وغالبا ما يستبدلهم بسرعةٍ شديدة. هو حارسٌ قلقٌ على ملكٍ توهم أنه خلقه بليلٍ من ضلوعه، ملك وهبه الله له في الأحلام، حينما رأى سيفا مقدّما من رئيس سابق، وقد كتب عليه بالأحمر (لا إله إلا الله محمد رسول الله)، ومن قدّم السيف اسمه محمد، ومستلم الهدية، في الحلم، اسمه أيضا محمد.. (طيب عاوز إيه تاني يا عم بعد كده؟). فكيف لا يخاف المنقلب على ملكه ليلا ونهارا؟ تحضرني في هذا المقام قصة قصيرة جدا للراحل يحيى الطاهر عبدالله، حلّت لي هذا اللغز في بساطةٍ وضحكٍ أيضا، وليس بكآبة، وهي تحكي عن رجلٍ كبير السن جدا، ولكنه "فالت" كما يقولون، فجأة تزوّج فتاة صغيرة وجميلة في عمر أحفاده، واشترى في سهولةٍ ويسر السرير والدولاب والحلق والكردان والخلخال والكحل إلى آخره، وكان حينما يجنّ الليل، وهي بجواره على السرير في "المقعد" يفتح الشباك، ثم يطلق طلقة من فرد خرطوش، ثم يعود إلى جوارها وينام، هكذا في كل ليلة أو حسب ما يتراءى له.
لم أحاول أن أتخيل كيف انتهى الحال بهذا المسن، ولا أملك هذا الترف، ولا حتى يحيى نفسه اهتم، بل ترك الأشياء هكذا، وأنا تركت الأشياء هكذا. قد يكون هذا الرجل لا يخاف شيئا، وقد يكون خفيف الدم، وقد يكون قاطع طريق ترك "الكار" بعدما كبر، وقد تنتظره "العباسية" بعد سنتين، قد، وقد لا يُحدث شيئا إطلاقا، وينجب منها ذكرين أملحين، لكن هذا هو الملك دائما يخيف ويقلق، وخصوصا إذا جاءك في غفلةٍ من زمنك أو تم اختطافه، حتى وإن كان ذلك مَجلبة للضحك أو السخرية أو الأسى على كُلفة الدم الباهظة. وكي نخرج من هذه النهاية المأساوية التي قرّبتنا للدم، أتذكّر، كي أحوّل المشهد كله إلى طاقةٍ ما من طاقات الهبل أو العبط أو حتى الهطل، أن هناك على مقهى البستان في وسط القاهرة، كانت، في تسعينيات القرن الماضي، فتاة تقول للجمال نفسه: أنت مين؟ وهذا ليس مبالغة، وكانت إذا خرجت من البناية ترك رواد مقهى البستان مباسم الشيشة، وصلّوا على النبي. ويا أرض احفظي ما عليك، إلى آخره، وفي يوم نزلت الجميلة كعادتها، وكان يمشي بجوارها ابن بواب البناية على ما أظن، وكان أهطل، واضحا أنه في العودة هو الذي سيحمل سلة الفاكهة أو الملابس، انطلقت كلمات الغزل كالعادة، وابتسمت هي كالعادة، وإذا بالولد الأهطل يقف وينظر إلى الجميع، فضحك الجميع، فسحبته هي من يده وابتسمت.
حاولتُ أن أجد تفسيرا لزعل الولد الأهطل، فوجدته منطقيا جدا، فالولد الأهطل، بحكم اللحظة القدرية، هو الحارس الفعلي لكل هذا الملك الجميل، حتى وإن كان في جوهره شكليا، أو "مجرد تخشينة" كما قال محمد الجبيلي. جمال البنت لا يُضاهى، والحارس مالك، ولا بد أن يكون أمينا وحريصا وقلقا ومتهوّرا إن لزم الأمر، على الرغم من أن الأهطل لم يكن يملك أيا من علامات القوة، لكنه وقف، ونظر إلى الجميع وحاول، هو يقلق على ملكه الوقتي، فما بالك لو كان ملكه سرمديا أو يتصوّر أن يكون سرمديا، تخيلت أنه من الممكن أن يتعارك ويقتل أيضا، ثم عدت فوجدت منقلبا يقول: "أي حد هيقرب منها هشيله من على وش الأرض". فكل ملك عزيز حتى على العبايط. ويا رب احفظنا من العبط في أوطاننا المبتلاة بهم.