الثورات العربية ومسار خلط الأوراق

الثورات العربية ومسار خلط الأوراق

25 أكتوبر 2018
+ الخط -
لا يعدّ ما يطلق عليه اليوم مسار خلط الأوراق، في بعض بلدان الثورات العربية أمراً جديداً، بل إنه واكب الثورات العربية منذ انطلاقها سنة 2011، وقد أصبحت بعض ملامحه واضحةً في السنوات الأخيرة، كما أنه لا يمكننا فصله عن آليات عمل الثورات المضادة التي أنشأت لنفسها، منذ بداية الفعل الثوري العربي، جملةً من الأدوات التي تسعفها باختراق ما تتجه الثورات إلى وقف جبروته، جبروت أنظمة الاستبداد والفساد في مجتمعاتٍ عربيةٍ عديدة.
تندرج أفعال خَلْط الأوراق ضمن خطط الثورات المضادّة، بحكم أن المستفيد الأكبر منها هو الأنظمة السياسية التي انتفض شباب الثورات ضدّها، حيث تعمد جيوب الأنظمة المذكورة إلى الركوب على موجات الاختلاط المدبّرة، مُتَطَلِّعَة إلى مزيدٍ من المحافظة على مكاسبها القديمة، وذلك بكَسْر روح الثورة ورياح التغيير التي تحملها.
يُقَدِّم نعت خَلْط الأوراق في المتداوَل من التحليل السياسي محاولةً أوليةً لفهم ما يجري من تداعيات الفعل الثوري المتواصلة في مجتمعات الثورات. وهي محاولةٌ تتوخّى إدراك بعض حدود الصراعات الجارية وأبعادها داخل هذه المجتمعات بين الأنظمة وشعوبها. ولأن مُتَابِع ما يقع داخل هذه البلدان لا يتوفر على كثيرٍ من المعطيات الصانعة ملامح الأحداث داخل هذه البلدان وخارجها، فإنه يلجأ إلى تركيب مفرداتٍ من قَبِيل مُفردَة خلْط الأوراق، لعلها تساعده في عملية إبراز بعض صور الاختراق والاختلاط والتدافع، الحاصلة بصورعديدة داخل مجتمع الثورات، منطلقاً من تَصَوُّر حصول مناوراتٍ تروم تحويل مسار الثورة، حيث يمكن ربط جوانب عديدة من مسألة الخلط بالأفعال الناشئة عن الثورات المضادّة، أي الأفعال التي تروم باختراقها الحدث الثوري إنجاز ثورة مضادة.
وإذا كان مبدأ استيعاب ظاهرة خلْط الأوراق يحتاج وقتا كثيرا، ليتمكّن المتابعون من معاينة 
صُور الحرب المتواصلة بين خندق الثورات وبُؤَر الثورات المضادة، فإن الأمر البارز اليوم يتمثل في أن بعض بلدان الثورات، وخصوصا سورية واليمن وليبيا على سبيل التمثيل، على الرغم من الاختلافات العديدة بينها، تحولت بعد سنوات من مواجهة أنظمة الاستبداد إلى فضاء مفتوح للقِوى الدولية والإقليمية، ولمختلف العقائد والطوائف والمرتزقة، فضاء لأصحاب المصالح الراغبين في استمرار الحال على حالها، مع إضافة عملياتٍ أخرى في الخلط ثم إعادة الخلط، عمليات تكون قادرةً على تركيب المتناقضات، وتوظيف مختلف الوسائل التي تمكّن من عزل المشروع الثوري وتهميشه لمصلحة الأنظمة المستبدّة وجيوبها اليقظة والنائمة. لنتأمَّل أوضاع المجتمعات المشار إليها قصد التمثيل، سنجد أنفسنا أمام شعوبٍ نَكَّلت بها أنظمة مُسْتَبِدَّة لمدة عقود، وعندما خرجت إلى الميادين رافعةً شعارات الثورة والحرية تَكَالَبَت عليها القِوى الإقليمية والدولية، فتحوّلت إلى فضاءٍ مفتوحٍ ومباحٍ لشبكات التنظيمات التي تتاجر في السلاح والبشر والطوائف والمذاهب، من دون نَفْيِ علاقة هذه الشبكات بالقوى المذكورة، حيث يُسَخِّرُها الجميع للقيام بأدوار مُحَدَّدة، وهي أدوارٌ ترتبط بشبكة المصالح وحدها، وتمارس في الآن نفسه مهمة خلط الأوراق.
تُمارِس الأنظمة الاستبدادية في أثناء مواجهتها الفعل الثوري بما يتيح لها بناء مسارٍ لخلط الأوراق، وهي لا تمارس ذلك وحدها، بل تساهم المعارضة العاجزة عن إكمال مسلسل الثورة، وإعداد البدائل المناسبة لكل ما ستعمل الثورة على تفكيكه، في عمليات الخلط. غيابها أحياناً وعدم قدرة قُوَاهَا على بناء مواقف واضحة ومحدَّدة لبرامج في التحرّر والتحرير، يساهم في بناء مسار التراجع وخلط الأوراق. وتكشف صُور عجز المعارضة السورية عن تجاوُز 
صراعاتها، سواء في بداياتها داخل المجلس الوطني، أو في الائتلاف الوطني لقِوى الثورة والمعارضة، تكشف عجزها عن بلورة مشروع وطني بَدِيل وقادر، في الوقت نفسه، على مواجهة النظام السائد. وقد ساهمت أخطاء كثيرة للقوى المعارضة في البلدان المذكورة، وتورُّط كثير من فصائلها في علاقات تبعية مع أنظمة عربية وإقليمية ودولية، بجانب قوى النظام، في عمليات خلط الأوراق، الصانعة جوانب عديدة من صور الارتباك والتراجع التي تملأ اليوم بلدان الثورات المذكورة.
يترتَّب عن مسار خلط الأوراق والانسداد المؤقت للآفاق بروز ما يشير إلى أن الخلط الحاصل بدأ يعطي بعض ثماره، حيث ينعكس ذلك على بلدان الثورات والبلدان العربية الأخرى التي لم تحصل فيها ثورات، الأمر الذي يدفع بعض هذه البلدان للقيام بعمليات "وقائية" لتجنُّب رياح الثورات القادمة، فينخرط بعضها في مسلسلٍ من التبعية المعلنة التي لا تُعير أدنى اهتمامٍ لا لمصالح شعوبها وأمتها، ولا لقيم التاريخ ومطالب الحاضر والمستقبل.. وفي هذه الحالة، كما في الحالة التي قبلها، لا يُعَدُّ مسار خلط الأوراق أكثر من عملية هروب مؤقتة. والإشارة هنا إلى مشروع تحالف الشرق الأوسط الاستراتيجي الذي تنخرط في الإعداد له بعض الدول العربية، إرضاءً لمصالح أميركا وإسرائيل، فهل تنجح حسابات الخلط المماثِلة لما ذكر أعلاه في تغيير مسار التاريخ ومسار بعض الثورات العربية؟
C0DB4251-3777-48D1-B7F6-C33C00C7DAEB
كمال عبد اللطيف

محاضر في جامعات ومؤسسات بحث في المغرب وخارجه، عضو في لجان جوائز ثقافية في مراكز بحث وجامعات عربية. يساهم في الكتابة والتدريس الجامعي منذ السبعينيات، من مؤلفاته "درس العروي، في الدفاع عن الحداثة والتاريخ" و"الثورات العربية، تحديات جديدة ومعارك مرتقبة".