أغنيتي الأولى وأغنيتي الأخيرة

أغنيتي الأولى وأغنيتي الأخيرة

25 أكتوبر 2018

(محجوب بن بلة)

+ الخط -
سألني الشاعر الزميل نوري الجراح ذات لقاء ما إذا كنت مؤمنة، مثل كثيرين، بأن "الشعر العربي الحديث متهم بانفضاض الناس عنه، وبأنه، بالتالي، شعر نخبة تكتب لنفسها"، وبالتالي.. قال؛ "لمن تكتبين، أعني من هو قارئك، وكيف تبنين علاقتك بهذا القارئ؟".
قلت له يومها إن الشعر دائما كان فعلا نخبويا تكتبه النخبة للنخبة، بغض النظر عن ماهية هذه النخبة، وعناصر خصوصيتها، أعني أنني لا أصدّق الذين يعتقدون أن الشعر كان، في أي يوم، فعلا جماهيريا أو ممارسة جمعية مثلا، وأن ما كان يقوله امرؤ القيس يستطيع أن يتذوّقه كل الناس في محيطه الجغرافي والتاريخي، لا. كان الشعر للنخبة الثقافية، أما ما كان سائدا بين الجميع فكان يسمّى دائما شعرا شعبيا، ليس تمييزاً له عن غيره، ولا إشارة إلى لغته العامية كما يعتقد بعضهم مثلا، بل وضعا له في درجة أدنى من درجة الشعر، على عادة العرب في التخصيص والتوصيف، فالشعر فعلٌ نخبويٌّ، لكنه يصبح جماهيريا عندما يكون شعرا شعبيا، بغض النظر عن لغته عامية أم فصحى. وقراءة دقيقة لتاريخ الذائقة العربية يثبت ذلك، بل أن استعراضا سريعا لجماهيرية بعض الشعراء العرب المعاصرين من الذين يكتبون بالفصحى أو بالعامية، والمتمثلة في انتشار دواوينهم الشعرية بين القراء، وازدحام أمسياتهم الشعرية بالحضور مثل يثبت ذلك أيضا.
وبشكل عام، فإن استقراء المشهد الشعري العربي يتيح لنا رصد شعريةٍ جديدةٍ، تتهيأ جدّيا لتكون العنصر الأبرز في هذا المشهد، من خلال تخليها عن التطرّف اللغوي والموسيقي لصالح فكرة المشهدية أو التشكيل الشعري.
وأنا معجبة بشهادة لأوكتافيو باث عن مستقبل الشعر، وردت في كتابه المهم "الشعر ونهايات القرن"، قال فـيها "إن الـشعر لا يلـفظ أنفاسه الأخيرة .إنه يعطي الانطباع بأنه متعب، إننا نمر بفترة توعك عقلي وروحي عميق، يتزامن مع صدمة تاريخية هائلة، غير أن كل أزمنة انعدام اليقين كانت غنيةً في إبداعاتها الشعرية والفنية. ولذا، لست قلقا على صحة الشعر، بل على المكانة التي يحتلها في المجتمع الذي نعيش فيه".
وهذه بالمناسبة دعوة مني إلى أن نتشارك كلنا مع الشاعر أوكتافيو باث في تفاؤله، وفي قلقه أيضا، خصوصا أن القصيدة العربية المعاصرة واصلت، وما تزال تواصل، مشروعها الحداثي (على الرغم من بوادر نكوص فني ساهمت به وساعدت عليه مقترحات وسائل التواصل الحديثة في الانتشار السريع لكل ما هو تقليدي غالبا)! وقد اقترحت تلك القصيدة، وما تزال تقترح، نماذج متفوقة على صعيدي الشعر والشاعر، مع ملاحظة أن هذه القصيدة تمارس كل نجاحاتها المتراكمة منذ منتصف القرن تقريبا، على أرضٍ قلقةٍ في مجملها، لكنها الأرض المتاحة للاستمرار في الحياة، وقصيدنا أكثر ما يستحق الحياة لدينا.
لمن يكتب الشاعر؟ لمن أكتب أنا؟ أكتب القصيدة، لأنني يجب أن أكتبها، أكتبها لنفسي، وأنشرها لكي يقرأها الآخرون، وإن كانوا قلةً، أكتبها لكي أراني فيهم، وأرى كلمتي في كلماتهم. أكتبها لكي تكون أغنيتي الأولى وأغنيتي الأخيرة.

دلالات

CC19B886-294F-4B85-8006-BA02338302F0
سعدية مفرح

شاعرة وكاتبة وصحفية كويتية، من مجموعاتها الشعرية "ليل مشغول بالفتنة" و"مجرد امرأة مستلقية"، ولها مؤلفات نقدية وكتب للأطفال. فازت بعدة جوائز، وشاركت في مهرجانات ومؤتمرات عدة.