قانون القومية الإسرائيلي في مواجهة التحولات

قانون القومية الإسرائيلي في مواجهة التحولات

24 أكتوبر 2018
+ الخط -
لماذا أقدمت إسرائيل الآن على سن قانون القومية العنصري الذي يتيح لها فتح أبوابها لكل يهودي (أو يهودية) بوصفها دولة لكل يهود العالم، ومنحتهم حق تقرير المصير القومي في أن يفعلوا ذلك تاليا، ومنعت هذا الحق عن مواطنيها من الفلسطينيين في أرضهم سكان البلاد الأصليين؟ هل هو مخرج من مأزق فشل حل الدولتين؟ أم خطوة استباقية تقطع الطريق على أي طروحاتٍ قد تطالب باللجوء إلى حل الدولة الواحدة ثنائية القومية؟
بعد الفشل الذي مني به اتفاق أوسلو في إقامة دولة فلسطينية على الأراضي التي احتلتها العام 1967، واستحالة تنفيذ حل الدولتين، سيما بسبب "الوقائع" التي أحدثتها إسرائيل على الأرض، من توسيع للمستوطنات، واستمرار قضم أراضي الضفة الغربية، إلى إقامة جدار الفصل العنصري والطرق الالتفافية التي مزّقت النسيج الجغرافي المزمع إنشاء الدولة الفلسطينية عليه، فضلا عن التهويد المتواصل للقدس الشرقية، والقضاء على كل المقومات التي تجعل من هذه الدولة الفلسطينية المرتقبة قابلة للحياة؟ أم هو استفراد الفلسطينيين في ظل انهيار المنطقة العربية، وانسداد الأفق الفلسطيني الذي قد يولد ردود فعل قوية على المستوى الشعبي (مثل الانتفاضة أو هبة الشبان الفلسطينيين أخيرا أو مسيرات العودة)؟ يضاف إليه تنامي قوة فلسطينيي 1948، وبروز دعوات جدّية من نخب فلسطينية داخل إسرائيل وخارجها، تطرح حل الدولة الواحدة ثنائية القومية الذي يبدو أنه بات "أمرا واقعا" داخل دولة إسرائيل، فرضته بنفسها، من غير أن تحسب جيدا أنه قد يقودها إلى ما ترفضه، وهو حل قد يبدو مغريا حتى للإسرائيليين أنفسهم!
وإذا كان الأمر ذلك كله، أو بعضه، أو لأسباب أخرى كثيرة ومركّبة، فإن "قانون القومية 
اليهودي" يستقي مرجعيته الإيديولوجية من أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، حين برزت طروحاتٌ عديدة تدعو إلى إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، وإنْ على خلفياتٍ مختلفةٍ متعارضة في تصوراتها، لكنها جميعها أدت فعليا إلى إنشاء هذا الوطن. كانت طروحات آشر جينزبيرغ الأهم، والذي اشتهر باسم آحاد هعام، وهو أحد أبرز الفلاسفة الوجوديين اليهود. دعا إلى إنشاء هذا الوطن، ليشكل "مركزا ثقافيا روحيا لكل يهود العالم"، يتم عبره تذكير اليهود بيهوديتهم "على أساس إثني علماني"، ويبني أواصر قومية عضوية تساهم في عدم ذوبانهم في المجتمعات الأوروبية، ذات القيم التنويرية التي بلغت ذروتها في القرن التاسع عشر، وجذبت إليها يهودا كثيرين مقيمين فيها، ودفعتهم إلى الاندماج. "ولكن لم يُسمح لهم بالاندماج بسبب معاداة اليهود أقلية منبوذة" في تلك المجتمعات. ولم تدع طروحات آحاد هعام إلى دفع يهود العالم جميعا إلى الهجرة إلى فلسطين، واصطدمت لاحقا مع المشروع الذي قاده مؤسس الحركة الصهيونية العالمية، تيودور هرتزل، بوصفه "مشروعا سياسيا اقتصاديا"، ينطوي على مضمون صهيوني استعماري استيطاني عنصري. اصطدمت هذه الطروحات أيضا بمفكرين يهود آخرين، دعوا أيضا إلى إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، ولكن على أسس إنسانيةٍ، تسمح بالتعايش مع الجماعة القومية الأخرى (الفلسطينيين)، مبنيةٍ على قيم العدالة والسلام وفي دولة ثنائية القومية، وكان مارتن بوبر وآرثر روبين من أوائل من دعوا إليها في عشرينيات القرن العشرين. ولكن، لم يكن في يد اليهود في ذلك الوقت أي شيء بعد. وعلى الرغم من عدم تبنّي آحاد هعام وطنا قوميا سياسيا، فإن طروحاته كانت غامضةً، وغير متسقة في تفاصيلها، ومتناقضة مع ادّعاءاته الثقافية، فقد أجاز هعام لليهود الاستيلاء على كل مصادر الرزق في فلسطين، كالأراضي الزراعية والممتلكات، على الرغم مما يعنيه ذلك من تصادم "مع الأغيار الفلسطينيين"، وهو التقاطع الأبرز لطروحاته مع مشروع هرتزل الاستيطاني الصهيوني العنصري الاستعماري، ولم يمنع كل من آحاد هعام ومارتن بوبر وكثيرين غيرهم من الهجرة إلى إسرائيل، والعيش في وطنٍ تمت إقامته على أشلاء الفلسطينيين .
استلهم قانون القومية اليهودي من آحاد هعام مرجعيته الإيديولوجية ذات الصبغة الثقافية، بوصفها مركزا ثقافيا لكل يهود العالم، وحول الوطن الثقافي إلى مركز سياسي قومي لكل يهود العالم، سيما أن مشروع آحاد هعام لا يضيره استيلاء المستوطنين على أراضي الأغيار (الفلسطينيين) وممتلكاتهم، في معرض تأسيسهم هذا الوطن. استخدم قانون القومية "المرجعية الثقافية للوطن" ليشرعن "العنصرية" (والتي تمارسها إسرائيل أساسا) من ضروب الهروب إلى الأمام، عبر العودة إلى الأصول، سيما مع تعاظم نفوذ اليمين اليهودي المتطرّف المتجه نحو الفاشية، وليس فقط في مواجهة التحولات الديموغرافية المتداخلة والمتعاظمة لصالح الفلسطينيين، ولصالح "دولة ثنائية القومية"، مقوّماتها جاهزة على الأرض، ويراها جيدا من عمل على سن قانون القومية، ويحاول قطع الطريق على طروحات بعض نخب اليسار الإسرائيلي والعلمانيين التي باتت تجهر علنا تأييدها حل "الدولة الواحدة ثنائية القومية"، ولديها مرجعياتها الإيديولوجية هي أيضا في فكر بوبر وروبين وآرندت ونيفيستيني وغيرهم.
عمليا، يهدّد هذا القانون أيضا نصف المجتمع الإسرائيلي العلماني (وليس الفلسطينيين وحدهم)، ويهدّد المكتسبات الديمقراطية لفلسطينيي 1948، ويهود إسرائيل على السواء، والذي بدأت بعض نخبه المثقفة، وإن كانوا ما زالوا قلة، بالتحدث همسا وعلانية مع فلسطينيي 1948، وخارجها، عن حل الدولة الواحدة ثنائية القومية (مثل أسعد غانم، حل الدولة الواحدة، وسعيد زيداني بصيغة تمهيدية "دولتان في وطن واحد")، وقبلهما إدوارد سعيد وعزمي بشارة وغيرهما من المفكرين الفلسطينيين، بوصف "الدولة الواحدة ثنائية القومية أو متعدّدة القوميات" حلا واقعيا له معطياته وقابليته للحياة، على غرار النموذج السويسري أو البلجيكي، حلا عادلا (مفترضا) يسمح لليهود والفلسطينيين بالعيش فيها جماعتين قوميتين، على أسس مواطنية متساوية، ويقيمون فيها أينما شاؤوا على أرض فلسطين التاريخية، وهي "تشكل عمليا حلا
 عقلانيا متناميا" لعودة من يريد من اللاجئين الفلسطينيين إليها. قد يبدو هذا الحل (دولة واحدة ثنائية القومية) ضربا من الخيال عند الفلسطينيين واليهود على السواء، لما يشوبه من معوقات في الوعي الجمعي للمجتمعين، الإسرائيلي والفلسطيني. وسيحتاج حتما سنوات طوالا وجهودا خلاقة تتجاوز المعوقات، أيا كان نوعها من صيرورة حل، وليس بوصفه حلا واضح المعالم بتفاصيله الشاملة. ويدرك رئيس حكومة الاحتلال الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، وكذلك الأحزاب اليمينية المتطرّفة ومراكز الدراسات والأبحاث الإسرائيلية، أن إسرائيل ستصطدم عاجلا أم آجلا "بواقعٍ" ساهمت إسرائيل في إحداث وقائعه على الأرض. ويدرك نتنياهو وهؤلاء أن هذا الواقع لن يثني الفلسطينيين عن الكفاح من أجل حقوقهم. بل ربما يتوقعون أن تفاجئهم الأجيال الفلسطينية الصاعدة، ونخبها المتميزة المنتشرة في العالم، وفي أكثر الدول تقدّما بأساليب نضاليةٍ إبداعيةٍ، أكثر تصميما وأشد إيلاما للكيان الصهيوني المريض. يستدل من ذلك على عزم الشبان الفلسطينيين المتواصل، ومن الشجاعة والإقدام اللذين يظهرونهما لإبقاء جذوة نضالهم مشتعلةً، مهما كانت التحولات التي تحيط بهم، ومهما تاهت البوصلة، أو طال أمد الصراع. وما يعرفه الإسرائيليون عموما، ويدركونه جيدا، على مدى سنوات الصراع الطويلة، وما يدركه العالم أيضا، هو أن الشعب الفلسطيني لا يخاف، بل هو عصيٌّ على الخوف، وعدم الخوف هذا يخيف الساسة الإسرائيليين، على اختلاف مشاربهم، ويدفع إسرائيل، وسيدفعها دائما، إلى اتباع سياسات وسن قوانين، لكنها لا تعدو أكثر من مجرّد "تأجيل" لما هو "محتوم"، أقله تفكيك المضمون الصهيوني لدولة إسرائيل، ليس على يد الفلسطينيين وحدهم، بل على يد أبنائها الإسرائيليين ممن يتوقون للعيش مثل جميع البشر، ويحلمون بحياةٍ طبيعيةٍ عاديةٍ خاليةٍ من الحروب. وما يبدو "هجوما متجدّدا" على حقوق الفلسطينيين عبر "سن قانون القومية" هو في الحقيقة "دفاع عن الوجود". وحتى لو ظن نتنياهو، ومن معه، أن هذا القانون سيُكسبه مزيدا من الوقت، ريثما يُحكم السيطرة، فليس هنالك ما يضمن أن الوقت سيعمل لصالحه، في محاولاته كسب الوقت، على الرغم من كل هذا الخراب العربي.