استراق السمع

استراق السمع

21 أكتوبر 2018

(Getty)

+ الخط -
منذ سنوات بعيدة، كنت "أخدم الوطن" صباحاً، وأعمل بعد الظهر إدارياً في مصنع يمتلكه والد صديق لي. ولميولي اليسارية المتبرجزة، كلفت نفسي بالتواصل والتقارب مع العمال. وبعيداً عن الشعارات والقوالب الجاهزة، كانت لدى كل فرد منهم قصةٌ مليئة بمزيج متفجر من الحزن والأمل والفرح والخيبة. وكان منبت كل منهم الإثني والديني عاملاً إضافياً في إغناء سردياتهم التي يلعب فيها أحيانا الخيال دوره الحاسم لصياغتها وتنميقها. وكانت ساعات تجوالي بينهم تفوق ما أقضيه في غرفتي الزجاجية المتموضعة في الطرف الآخر من صالة إنتاجهم. ومن أجمل لحظات "الوحدة الوطنية" المتخيّلة حينذاك كان امتزاج النغمات الموسيقية والأغاني المرتبطة بكل مكوّن في المكان. ولم يكن هذا يسبّب صداعاً لأحد، عداي ربما، وهذا ليس مهماً في إطار تفاعلاتهم اليومية، فكان الغناء الكردي يمتزج بالسرياني، ويمتزج الاثنان بقدودٍ حلبية تُطعّمها أحياناً ابتهالاتٌ دينيةٌ لا تروق دائماً للآخرين، من دون إبداء علامات التذمّر إلا في وجهي، علّني أتدخل وأوقف إشارات التمييز الديني المنبعثة من المذياع الصغير قرب الآلة، والذي لا يمكن معرفة نوعه أو حجمه، لما تراكم عليه من شحوم ودهون وطفيليات. وبالتأكيد، هذا دليل آخر على حسن الصناعة القديمة، لأن معاملةً لا إنسانية لمذياع حديث ستُهلكه في اليوم الأول لعمله.
وإضافة إلى مهامي الجسام، ولم يكن الهاتف النقال حينها، كنت أتلقى وأمرّر اتصالات هاتفية تطلب الحديث إلى هذا العامل أو ذاك، وأتحكم، من دون لؤمٍ أو ضغينة، في إمكانية الحديث، آخذا بالاعتبار مدى انشغال العامل، وإمكانية توقف شبكة الإنتاج لغيابه ولو لدقائق. ولكن، يبدو أنني كنت شديد التسامح، فتحولت إلى عامل مقسم في أغلب الأحيان. وبالتأكيد، لم أكن أحتفظ بسماعة الهاتف على أذني، بعد أن أسمع تداخل الصوتين من الجهتين، فأعمد إلى إغلاق السماعة، مع الاحتفاظ بعين ساهرة على المؤقت، لتقدير مدى انشغال العامل عن آلته.
وذات ظهيرة، اتصلت سيدة طالبة التحدّث إلى أبو جورج، العامل المسن والصامت، والذي لا يستمع إلا لموسيقى آلته الصاخبة. وكان متقاعداً من وظيفةٍ لم أكن أعلم طبيعتها، ويعمل لسد 
عجز راتبه التقاعدي المتواضع، وهو يقارب السبعين، أو هكذا خُيّل لي. كان يُثير اهتمامي، بصمته وحزنه الظاهر، وعدم مشاركته الآخرين الحديث، وتناوله طعامه البسيط، منعزلاً وراء آلته بعيداً عن "هيصة" البروليتاريا، فلعب الشيطان في نفسي، وقرّرت ألا أغلق سماعتي، وأسترق السمع إلى حديثه مع السيدة، فكان الحوار ملحمياً بامتياز لن أنساه ما حييت. فقد تبيّن لي أن أبو جورج ضابط متقاعد، وقد أفنى عمره في حروب "التحرير"، وأصيب مرات، وابنته السيدة اللطيفة تناجيه العودة إلى المنزل، والاستراحة من العمل، لأنها تعمل مدرّسة وتعده بمساعدته على تدبّر أموره. وكانت أجوبته سلبيةً، بهدوء وحنان ودعاءات حقيقية صادرة من قلب محطّم. طال الحديث ولم أنتبه إلى المؤقت، لأنني كنت أريدهما أن يستمرّا لأعرف أكثر عن هذا الشخص الغامض، فكان الحديث عن خدمته، وعن الفقر الذي رافقه طوال حياته، لأنه لم يسرق، وظن أن الجيش هو للدفاع عن حياض الوطن (...). وكانت ابنته من جيلٍ جديدٍ عرف معنى "عسكري، تدبّر أمرك"، فعارضته مراراً، ووصفته بالساذج الطيب، وبأن كل زملائه صاروا أصحاب معامل. وكنت استُفزّ من حديثها، على الرغم من حقيقته، وأشفق على أبيها.
بعد أسبوع من هذه المكالمة، مات أبو جورج قهراً وكمداً، فهل مكالمة ابنته كانت القاتلة؟ في الأمس، كنت أجول في شوارع برلين المشمسة على غير العادة، فسمعت صوتاً ذكورياً يصرخ بالعربية، وانتبهت إلى أن المارّة يرمقون النافذة المفتوحة التي يصدر منها هذا الضجيج 
باستغراب، وربما بازدراء، فاقتربت مستطلعاً الأمر باحثاً عن "أسباب مخفّفة" لتبرئة الشقيق. فاسترقت السمع مرة أخرى، حيث إنني لم أفقد هذه "الحشرية" الإنسانية بعد. وجلست على ناصية الرصيف تحت نافذته، محاولاً تبيان الحال. وكانت اللهجة سوريةً وشابّة، يُناجي صاحبها أمه أن تسامحه (...). فهو قد هرب من "خدمة الوطن" كي لا يقتل. وكانت أمه تصرخ به من طرفها أيضاً بكلمات الحب المليئة بالدّعاءات. وكأنه شعر بتأنيب ضميرٍ ما، فأغدق عليها بتعابير العرفان والمحبة، مقبّلاً يديها وقدميها، واعداً بجلبها في أقرب فرصة، حينما يتمكّن من "لمّ الشمل". وانتقل بعدها إلى وصف المدينة بكلماتٍ جميلةٍ، تُضفي على صاحبها هالةً من الثقافة والمعرفة، وكانت والدته تُقابل تفاصيله المحكية بالإعجاب والتحسّر، لكنها سرعان ما تبدي فرحتها بحياته الجديدة البعيدة عن الحرب، وعن السجون، وعن الخيانات.
استغرقت في الحديث متابعاً تفاصيله، وأنا ابتسم للمارّة الذين استمروا في رمق النافذة باستغرابٍ قارب الاستهجان. تمنيت أن أتحدث للشاب، لكنني انتبهت إلى أن مكالمته انتهت، وصمت الصوت.
دافع أبو جورج عن الوطن بصدق، ومن دون أي عرفان، ومات مقهوراً. واللاجئ السوري البرليني رفض أن يَقتل، وهو في عرف القانون الخنفشاري خائن، لكن برلين منحته حياة جديدة، سيسعى بالتأكيد إلى تزيينها بحضور والدته، ليحميها من الموت قهراً وحسرة على فراقه.

دلالات