مات الولد

مات الولد

03 أكتوبر 2018
+ الخط -
حاول الجلوس منفرداً، في ركنٍ منزوٍ، يريد أن يُطلق العنان لدموعه، ولا يريد أن يسمع عبارة مواساةٍ واحدةٍ مثل كلمة: أنت رجل فكن قوياً.. ولكن لا أحد يسمح له بذلك، الجميع يدفعه إلى المقدّمة، ليقف في الصف الأول، ويستقبل المعزّين الذين تباينوا ما بين ثري وفقير، فهناك من يرتدي منهم بذلاتٍ أنيقةً بربطات عنقٍ سوداء اقتناها لمثل هذه المناسبة، وهناك من جاء بملابس رثّة وحذاء مهترئ.
كان ينظر ويتأمل في الوجوه، وهو يحاول الوقوف، فقد وقف قبل ذلك ساعاتٍ طويلةً أمام باب مدير إحدى المؤسسات الخيرية، ظلّ ينتظر وصوله، لكنه لم يصل، وقيل له إنه قد تغيّب لعطلٍ في سيارته، فعاد أدراجه إلى البيت. وفي الطريق بلغه نبأ موت الولد.
كان يريد مقابلة مدير الجمعية، لكي يرجوه أن يدرج اسمه في قائمة المنتفعين من التبرّعات التي تصل إلى الجمعية، ويسرق المدير أكثر من نصفها بالتعاون مع حاشيته، ولكن الأمر لا يعنيه كثيراً، فهو يتسوّل من سارق، ويريد أن يحصل على الفتات، لكي يطعم الأفواه المفتوحة والبطون الخاوية في البيت المتآكل الذي يُنذره كل يوم بالسقوط فوق رأسه ورأس البقيّة من ساكنيه.
ذهب في اليوم السابق إلى مكتب توزيع المعونات العينية التابع لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين (أونروا)، وطلب مقابلة المسؤول الذي قرّر أن يحول بطاقة الإعاشة المزدوجة التي يحصل عليها كل عدة أشهر إلى بطاقةٍ مفردة، والبطاقة المزدوجة يعني أن يحصل على كميةٍ مضاعفةٍ من الأرز والزيت والطحين، بسبب كبر عدد أفراد عائلته، لكن المسؤول حوّلها إلى بطاقةٍ مفردة بلونٍ مميز. وبذلك يحصل على نصف الكمية من المعونات، وهو في الحقيقة كان يبيع الفائض من المعونات بثمنٍ بخس، ليحصل على قروشٍ قليلةٍ ينقدها للصغار أياما متتالية مصروفا للمدرسة. أما الولد الكبير فقد توقف عن طلب شراء حذاء جديد، وأصبح يشعر أنه مسؤول، مثل أبيه، عن هذه العائلة الفقيرة.
شعر بألمٍ في ساقيه يفقده القدرة على الوقوف لاستقبال المعزّين، ولكن كان عليه أن يقف لأنه والد الولد الذي مات، الولد الذي أنهت حياته رصاصةُ قنّاصٍ أصابته في صدره، سرح بخياله لوهلةٍ، وهو يتخيّل حال أمه داخل البيت، يعرف أن المعزّيات يلتففن حولها، ولكنها بحاجةٍ له لكي يحتضنها ويبكيا معاً، سمعها وهي تودعه عندما جاءوا به من المشفى، لكي تلقي عليه نظرة الوداع، حيث قالت عبارة واحدة: حرقت قلبي يا ولدي ورحت. وفي الواقع، كان قلب زوجته يحترق كل يوم ولا تتكلم، لأنها كما كانت تقول له إنها بنت أصل، ويجب أن تصبر على الحلوة والمرّة مع زوجها، وهي محروقة القلب إلى حد الاشتعال، وهي ترى البيت الخاوي من الطعام، وملابس أطفالها البالية، أما الولد فكان يحرق قلبها كل يوم، فقد أصرّ على ترك المدرسة ليوفر المصاريف، وبحث عن عملٍ ليساعد أباه ولم يجد، ولم يعد يفعل شيئاً سوى مساعدة أمه في شؤون البيت، مثل حمل الأواني الفارغة وملئها بالماء من البائع الذي يجوب أزقة المخيم.
لكزه أحد أقاربه في ذراعه، لكي ينتبه إلى فوجٍ من الرجال ذوي النفوذ الذين قدموا إلى خيمة العزاء، فنظر نحوهم فأعمت بصره كاميرات المصوّرين التي لمعت في وجهه مرّاتٍ متلاحقة. وحين اقترب منه ذوو النفوذ، تسابق الجيران الفقراء إلى السلام عليهم، وزاحموا المعزّين للوصول إليهم، تمعّن في وجوههم التي تخفيها نظارات سوداء عريضة، فعرف منهم مدير الجمعية الخيرية الذي انتظر على بابه قبل ساعاتٍ لساعات، وعرف المسؤول في مركز توزيع المعونات القريب من البيت. وعرف أيضاً صاحب مجموعةٍ من المطاحن الذي يدير عدة مخابز شهيرة في المدينة، وكان قد تقدّم إليه بطلب للعمل في أحد مخابزه، فنظر له شزراً، وقال له، بصريح العبارة، إن منظره يبدو بائساً، ويخشى أن يكون مصاباً بمرضٍ معدٍ فيفر الزبائن من مخبزه، رآهم جميعاً، وردّ بعبارةٍ واحدةٍ على كل واحد منهم وهو يصافحه: مات الولد.
avata
سما حسن
كاتبة وصحفية فلسطينية مقيمة في غزة، أصدرت ثلاث مجموعات قصصية، ترجمت قصص لها إلى عدة لغات.