هذا الوطن

هذا الوطن

20 أكتوبر 2018
+ الخط -
هل القطار المَكوكي رقم 9، والذي كان رابطاً بين مدينتيْن في المغرب، صباح يوم الثلاثاء (16 أكتوبر/ تشرين الأول 2018)، وأودى بحياة سبعة أشخاص على الأقل، وجرح أكثر من 120 آخرين (حسب أرقام رسمية)، وحده المُنْزاحُ عن سِكّته والمنحرفُ عن مساره المرسوم له، لكونه مسارا غَيْر مَصُونٍ بالعناية اللازمة؛ أم أنّ البلاد كلها انزاحتْ وزاغتْ وانحرفت عن سبيل التنمية المنشودة، وضلّ الوطن طريقه في صحارى التهميش والجهل ومهاوي الخدمات الرّديئة، وطبّع مع مكانته في ذيْـل تصنيفات التقارير الدولية؟
السؤال أعلاه طُرِح في ذهني أكثر من مرّة، مبادِرًا إلى طرق رأسي، فمع كلّ خبر كان يتدفق عن تطورات الحادثة المفجعة وتداعياتها، حيث رأيتُ فيه سؤالاً مشروعاً وجديرا بالطرح، عن أحوال دولةٍ تواترت فيها بقوة، خلال الآونة الأخيرة، أخبارٌ لا تسرُّ صديقاً ولا تغيظُ عدواً، دولةٌ ستُسجَّل بمدادٍ من أسى وحسرة في سجلّ مآسي التاريخ الحديث؛ والسبب هو أنّه قد صار لها يوم "ثلاثاء أسود"، على غرار الثلاثاء الأسود الشهير الذي لم يغادر الذاكرة الجَمْعِيّة للشعب الأميركي.
تساؤل مُلح وحيوي آخر يفرض نفسه، ولا يقل أهمية عن التساؤل الأوّل، وجدتُني أطرحه على نفسي في ذهول، حيث يتعلّق الأمر بحيوية التواصل وقيمته وجدواه في مثل هذه المناسبات الأليمة. بعد وقوع الحادث الذي جعل أبرز المسؤولين الحكوميين وغيرهم يهرعون إلى مكان وقوعه، حيث عاش الرأي العام المغربي على وقع تضارب شديد في الروايات والأنباء، لم يكن سببه سوى انعدام التواصل، إذ كان المفترض في مكتب السكك الحديدية والمسؤولين عنه، أن يقوم بواجبه في هذا الصدد، لكنهم فضّلوا إغلاق هواتفهم في وجه الصحافة الوطنية، مُكتفينَ، فقط، بزيارة ميدانية للمدير العام للمكتب إلى مسرح الحادثة، وإعطاء تصريحات لوكالات أنباء عالمية.
الأدهى من ذلك كله أنّ ثمّة بلاغات نُشرت وعُمّمت عبر قنوات التواصل الاجتماعي التابعة لمكتب السكك تحْمِل عبارات مواساة وتعزية لذوي الضحايا، قد تأخرتْ إلى حدود مساءِ اليوم الذي وقعت فيه الفاجعة صباحاً؛ تأخرٌ في التفاعل مع حادثة سككية ترقى لوصف "فاجعة"، يشبه إلى حد كبير، تأخر "قطارات لْخْليع" كما يناديها المغاربة، حيث أصبحت طقساً يومياً معتاداً طبّع معه معظم مستعملي تلك القطارات.
بينما تحدّث بعضهم عن "سَبْق مُبين" حققته الحكومة الإسبانية، حين سارعت إلى نشر بلاغ تضامني، بثلاث لغات، مع عائلات ضحايا حادث انحراف قطار في المغرب، معبّرة عن أسَفها لوقوعه، وكأنّ الأمر يتعلق بقطار إسباني فوق سكة تخترق التراب الإسباني يستقلّه مسافرون إسبان؛ اكتفى رئيس الحكومة المغربية، سعد الدين العثماني، بتغريدة "على استحياء" نشرَها حسابُه الرسمي في "تويتر"، قدّم فيها عزاءه إلى عائلات المتوفّين، راجيا من الله الشفاء العاجل لباقي الجرحى والمصابين.
المؤشرات أعلاه، مجتمِعة، تقود إلى يقين واضح صعبِ الإنكار؛ وهو أنّ التواصل في فترات الأزمات، باعتباره قيمة ثمينة في عالم اليوم، يعيش أيضًا على وقع أزمة مزمنة، ليس حادث "قطار الموت" ببوقنادل أول تجلياتها. فالعديد من الأزمات والمشاكل التي مرّت على المغرب، يغلبُ عليها، إمّا طابع "سياسة الأذُن الصمّاء"، أو قلّة التواصل وانعدامه، وأحياناً تُقابَل بعض الأحداث التي يهتز لها الرأي العام المحلي، كما العالمي، بلا مبالاةٍ قاتلة، وكأنّ شيئاً لم يحدُث! وعلى ما يبدو، وفي نظَر مكتب السكك الحديدية في المغرب، فإنّ من ذهبوا ضحية حوادثه العديدة "زبناءٌ كِرام"، لكنهم بعد الفواجع يبقوْن أُناسًا "عاديين" منزوعي الكرامة .
ختامًا، قد ينفع التذكير أو قد لا ينفع، وقد يكون من نافل القول إنّ دولةً "مِجهرية جُغرافيًا" كاليابان لكنها تضع كرامة مواطنيها فوق كل اعتبار، تحتسبُ تأخراتِ قطاراتها المتفوّقة على جميع الأصعدة، بالثواني، بينما تُحتسب تأخرات قطارات المغرب بالسّاعات، ولله في خلقه شؤون.
رحمَ الله ضحايا القطار رقم 9 وتقبّلهُم عنده في الشهداء ومع الصالحين، وعجّل بشفاء الجرحى والمعطوبين، وعزاؤنا واحدٌ في "وطنٍ برُتبة قاتل".
92F4FA87-A33B-424D-927A-7C5FF322CD27
92F4FA87-A33B-424D-927A-7C5FF322CD27
يوسف يعكوبي (المغرب)
يوسف يعكوبي (المغرب)