مَقتل جمال والشيطان الأخرس

مَقتل جمال والشيطان الأخرس

19 أكتوبر 2018
+ الخط -
(1)
على الرغم من الحزن الكبير على الصحافي والكاتب السعودي، جمال خاشقجي، وهو حزن طاغٍ ، هزّ ضمائر الجميع، للملابسات البشعة التي أحاطت باختفائه أو مقتله، كيفما ستثبت قرائن الأحوال. حزني شخصياً موجع، فقد عرفت الرجل خلال زياراتي بيروت التي كنت سفيراً لبلادي فيها بضع سنوات. كنتُ قد التقيت خاشقجي في دورةٍ لمجلس أمناء مؤسسة الفكر العربي ومقرّها بيروت. وبالطبع كنتُ أطالع كتابات جمال، وأقدّر ما لمسته من انفتاح في رؤاه ، ومن مرونة في طروحاته، ومن غيرته على أوضاع الأمة.
(2)
أمسِكُ عليَّ حزني على الرجل، ولكنّي أعجز أن أمسك عجبي وحسرتي لبعض تداعيات تتصل باغتياله. دفع ثمن رأيه المستقل، وسدّد كلفة إفصاحه بقناعاته والتزامه بمبادئ آمن بها، بل كان أميناً وصادقاً، فخرج بآرائه إلى ساحاتٍ خارج بلاده، يجد اختلاف الرأي فيها احتراما، وإلى صحافة، غير صحافة بلاده، يحترم قرّاؤها كُتاب مقالات الرأي الواضحِ السديدِ فيها.
ولعلّ أول عجبي هو الصمت المطبق من كل الأنظمة العربية، وما أرى من همهمة من بعضها، لا ترقى إلى أن تكون رأياً مُعبّراً، حول بشاعة قتل رجلٍ، بسبب رأيٍ أفصح عنه بلسانه، أو موقفٍ عبّر عنهُ بقلمه. وإني قد أجد العذر لبعضهم إذا بدا في نظرهم أن الأمر وشبهاته، يتصل بتورّط دولة عربية فيه، هي من أكثر الدول العربية نفوذاً وصيتاً، وأكثرها تأهيلاً، لأن تكون في قيادة، ليس البلدان العربية وحدها، بل الأمة العربية والإسلامية بمكوناتها السياسية والاقتصادية والدينية والثقافية.
الدولة التي ترفع شعار حماية الحرمين الشريفين. لا ينبغي أن تُكال الاتهامات ضدها جزافا، ولكن. و"لكن" هنا هي التي تفسّر عجز أنظمة عربية، لا تتبيّن بشاعة إسكات صوتٍ جاهر برأيٍ مخالف، لكنه لم يرفع سلاحاً، ولم يتزعم حركة تمرّد، وما قاد تظاهرة تعارض حاكم مُتربّع على كرسيه.
(3)
أما كان مُمكناً للأنظمة العربية أن تتداعى لنصرة من جاهر برأيه، على الأقل لتعكس التزامها الأخلاقي قبل القانوني، بما جاء في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي ارتضت كلّ دول 
العالم بمضامينه، منذ صياغته عام 1948. لقد نصّ على أن: "لكلّ إنسانٍ حقّ التمتع بالحقوق والحريات الواردة في هذا الإعلان كافة، دون أيّ تمييز، كالتمييز بسبب العنصر أو اللون أو الجنس أو اللغة أو الدين أو الرأي السياسي، أو أيّ رأيٍ آخر".
كانت تلك إحدى أهمّ القيم التي توافقتْ عليها البشرية، في أعقاب الحرب العالمية الثانية، بحسبانها من ضمانات الأمن والاستقرار المطلوبة، والتي تجنّب شعوب العالم مغبّة الولوج مجدداً، في حربٍ ثالثةٍ مُدمّرةٍ، لا تبقي ولا تذر. أما كان ممكناً، ولو لرئيس نظام عربي واحد، أن يستهجن ما حدث، مجرد استهجان، بلسانٍ، هو أضعف الممكن، وأيسر المتاح؟
(4)
لعلّ أكثر عجبي، هوَ صمت المنظمات الإقليمية التي أنشأناها بأيدينا، وكتبنا مواثيقها باقلامنا، وبصمنا بأصابعنا على الالتزام بمقرّراتها، فلا صوت من جامعة الدول العربية، فيما صوت عربي جهير يذبح بنهار لا بليل، وتتناقل تفاصيل اغتياله القنوات الفضائية في فقرات أخبارها، وتتبادل تفاصيل جريمة اغتياله، وسائل التواصل الاجتماعي. وليست جامعتنا العربية وحدها من تلام، بل منظمة التعاون الإسلامي والصمت قد لفّها أيضاً. لكلتا المنظمتين أجهزة حريصة على متابعة حقوق الإنسان، فلا تنتهك، وعلى حرية الرأي فلا تقمع، وعلى صوت الحقٍّ الجهير، فلا يُضام.
ويزداد عجبي أيضاً، من منظماتٍ وكياناتٍ، نبعتْ من المجتمع العربي المدني، فلا نسمع منها إلا همساً، ومن برلماناتنا العربية، إلا صمتاً مطبقا. صوت الحق إن لم يخرج فإنه يعذب ضمير صاحبه. .
(5)
ولا يسعني إلا أن أخجل، خجلاً مضاعفاً، وأنا أسمع زعماء في "العالم الحر" في دول أوروبية وأميركية، يجاهرون بصريح الإدانة، وبعضهم لمح إلى أن الحادث البشع يُعد انتهاكاً للقانون الدولي، وأن من قاموا به ينبغي تقديمهم لمحاكمات دولية، وأن لو ثبت ضلوع أيّ دولة في ذلك، فإن العقوبات ستطاولها. لا يسعني إلا الخجل، وأنا أسمع برلمانيين في الولايات المتحدة يقفون موقفاً مُشرّفاً مع حرية الرأي، يطالبون حكومتهم بموقف أكثر حزماً. وأسمع أن الأمانة العامة للأمم المتحدة تدين الجريمة، وتقف مع حرية الرأي، وتطالب بالصوت الجهير بملاحقة من كمّموا صوت رجلٍ حُر، ومن كسروا قلم صحافيٍّ مُستقل الرأي، وقطعوا لسانه، فعلاً لا مجازا، لأنه جاهر برأي.
نحن نعيش حقبة انفتاحٍ وشفافيةٍ وحرياتٍ مستفيضة، ومن يرغب في حياة القهر وسلب الحريات ومصادرة الرأي فهو مستبد ولن يطول بقاؤه، سوا أنظمة معنوية، أو أشخاص بعينهم. البقاء للقيم الأسمى، ولا غابة تؤوي وحوش هذا الزمان.