لنفترض براءة بن سلمان من دم خاشقجي

لنفترض براءة بن سلمان من دم خاشقجي

19 أكتوبر 2018
+ الخط -

سألغي عقلي، وأخرج ضميري من المعادلة، وأتعامل مع ما تروّجه قوات الحرب الجرثومية التابعة لولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، بجدية، وافترض معهم إنه غير ضالع في الجريمة..

سوف أخاصم المنطق الصوري، والمنطق المادي، وعلم الحساب وأصول العدالة، وأتجاهل كل الوثائق الدامغة والأدلة الساطعة، وسوف أعتبر أيضًا أن العالم كله، بشرقه وغربه، ضالع في المؤامرة على ملك آل سعود، وأن كثيرًا من المراثي الحزينة على جمال خاشقجي من النوع الاستثماري المبتذل.

سأفعل ذلك ذلك ثم أتساءل: هل يمكن أن تصبح السعودية أفضل وأقوى بعد التخلص من رجل أحب وطنه، وأخلص له القول والعمل، مثل جمال خاشقجي؟ الحق أن رحيل جمال خاشقجي يشكل خسارة فادحة للسعودية، حتى لو كان الذين قتلوه كائنات من خارج هذا الكوكب، هبطت ذات نهار على أرض تركيا وخطفته ومزقته، ذلك أن الشهيد، وفي عبارة واحدة، ستر بلده، بكلامه، واستبسل في الدفاع عما يصلح الحياة فيه، فكان جزاؤه أن جاء من أسكته عن الكلام للأبد، ففضح سلطة بلده وعرّاها أمام العالم، الأمر الذي كان يقتضي من السلطات السعودية، في حالة التسليم ببراءتها من الجريمة، أن تكون أول من يطلب الثأر لواحدٍ من أنبل أبنائها وأخلصهم، لا أن تطلق أبواقًا مسعورة تنهش روح الشهيد، بعد التمثيل بجثته.

كنت أتوهم أن الوضع الطبيعي يفرض على السلطات السعودية أن تتحرّك على كل الأصعدة الدولية تطلب التحقيق وإنزال العقاب بمن قتلوا رجلًا لم يكن يقبل كلمة واحدة تحمل إهانة لبلده، أو انتقاصًا من شعبه، ومن ثم يصبح الدفاع عن دم خاشقجي هنا  دفاعًا عن السعودية.

لم يكن جمال خاشقجي يذكر اسم عاهل السعودية، أو ابنه ولي العهد، من دون أن يسبقه بلقب "سيدي". وكان في المجمل في طليعة المدافعين عن رؤية سلطات بلاده لقضايا إقليمية عدة، وبالأخص في الموضوع الإيراني، حيث كان سابقًا بخطوات الإعلام السعودي الرسمي في التصدي للمشروع الإيراني، وتمدّده في سورية ولبنان واليمن والعراق.

لقد بلغ الشطط ببعضهم أن كانوا يطلقون على جمال خاشقجي "كاتب سلمان"، بل كانت صحف عدة تقدمه باعتباره المقرّب من دوائر الحكم، المعبر عن رؤيتها، حتى أن الخارجية السعودية أصدرت بيانين في عامين متواليين تعلن فيهما أن آراء ومواقف خاشقجي ليست تعبيرًا رسميًا عن السياسات السعودية.

"كاتب سلمان" استشهد، وأصابع الاتهام تشير إلى "ابن سلمان"، فلماذا لا يخاطب الأخير الأمم المتحدة ومجلس الأمن وكل الجهات الدولية المعنية بالعدالة للتدخل بفتح تحقيق عاجل، يظهر براءته إن كان واثقًا منها، ويثأر لدم كاتب والده؟

لماذا يكتفي بالفرجة وبلاده تتحول، شيئًا فشيئًا، بنظر العالم إلى مراعٍ للقتل والفتك بالخصوم، ويغلق كل الأبواب على نفسه، إلا الباب الذي يدخل منه دونالد ترامب معربدًا ومبتزًا، ومقدّمًا نفسه في صورة المدافع عن حقوق الإنسان، فيما هو في الحقيقة مؤسسٌ لتيار عالمي يحتقر حقوق الإنسان، وينظر له نظرةً طاغيةً ينتمي إلى ديكتاتوريات العالم الثالث؟.

ولماذا تصر جيوش البذاءة الإلكترونية المدافعة عن حكم بن سلمان على إهانة بلادها والإساءة لشعبها، بهذا النهش اليومي في كل من آلمهم الرحيل المأساوي لكاتب سعودي، ترأس تحرير ثلاث من الصحف السعودية الرسمية على الأقل، وتولى منصبًا دبلوماسيًا رسميًا، في وقت كان العاملون في القنصلية السعودية، وضيوفهم البواسل، يتلقون تعليمهم الابتدائي؟.

لماذا لا يتذكّر هؤلاء أنهم ينتمون إلى بقعة من الأرض تقدّست بخطوات رجل، اشتهر باسم "رسول الإنسانية"، وقال فيه الله "إنا أرسلناك رحمة للعالمين"، وروي عنه المبدأ الأخلاقي الأجمل والأروع في صيانة الحياة، للبشر والحيوان والزرع، حين قال عليه الصلاة والسلام "دخلت امرأة النار في هرّة ربطتها، فلم تطعمها، ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض، حتى ماتت".

كيف نقنع العالم بأننا أتباع ديانة، وأبناء حضارة تحترم الحياة، وتعرف قدسية نقطة الدم، وبيننا من يُغضبه الحزن على قتل وتمزيق جثة رجل من هذه البلاد نفسها، من المدينة المنورة، مدينة الرسول صلى الله عليه السلم التي احتضنته وآوته، حين عبست في وجهه بلاده الأصلية؟.

عودًا إلى السؤال: لماذا لا يطلب "ابن سلمان" الثأر العادل لدم "كاتب سلمان" إن كان بن سلمان بريئاً.

وائل قنديل
وائل قنديل
صحافي وكاتب مصري، من أسرة "العربي الجديد". يعرّف بنفسه: مسافر زاده حلم ثورة 25 يناير، بحثاً عن مصر المخطوفة من التاريخ والجغرافيا