قصيدتي.. في الغرفة السحرية

قصيدتي.. في الغرفة السحرية

18 أكتوبر 2018

(صفوان داحول)

+ الخط -
يتكرّر السؤال لي، ولكل من اقترب من لهب الشعر؛ "في أي سياقات جاءت، ولماذا أوصلتك لتكوني شاعرة"؟ وتتكرّر الإجابات لدى معظم الشعراء بتفصيلات الاختلاف الذاتي. أما أنا فهذه إجابتي؛ نشأت في بيئة شعرية إلى حد ما، على وقع الحكايات الشعبية والقصائد النبطية التي كانت تحكي تاريخ العائلة ويوميات أفرادها. كنت أنام بين أحضان جدتي، وكانت عمتي تملك صوتا شجيا تتحيّن فرص غياب الرجال عن البيت الكبير، لتطلقه بألحانها المرتجلة، وتغني به أغنياتها الحزينة. وكثيرا ما كانت تنافسها في تلك الالحان والقصائد المروية زوجة عمّي الكبير بروحها المرحة.. وكنت أسمع، وأتساءل بيني وبين نفسي عن أي سحر أسمعه من هؤلاء النسوة وتحذّرني أمي، بأحزانها التي لا تنتهي، غالبا من الانسياق وراء غواياته المبكرة؟.. وعندما وصلت إلى سن المدرسة، كنت قد تشبّعت بهذه الروح الشعرية وصارت القصائد هي أفضل ما يمكن سماعه من المعلمات، وما يمكن قراءته في الكتب المدرسية. وشيئا فشيئا، تسلل إلى عالمي شعرائي العظام من كل العصور ومن مختلف المدارس الشعرية وبكل الوسائل.. حيث شاركوني مخدع الليل ودفء المكان، وأهدوا طفولتي الكثير من مباهجها القليلة. لم أحب قراءة قصص الأطفال أو سماعها بقدر حبي قراءة الشعر، حتى لو لم أفهم مفرداته الصعبة أحيانا. كنت أهيم بالمتنبي، منذ كنت في العاشرة تقريبا، وكنت أنوح مع حمامة أبي فراس الحمداني، وأنا ساكنه بقربه، وأبكي كلما وصلت إلى نهاية حكاية طرفة بن العبد، وهكذا كانت لي مع كل شاعر حكاية سرّية أنسج فصولها على مزاجي، وأعيد سردها لنفسي، بعد أن أضعني في المكان المناسب من الأحداث فيها. وعندما اكتشفت شعراء العصر الحديث، اتسع قلبي، وتمدّدت أطرافي حتى لأكاد أمسك بالسماء، وأنا أقرأ لأي واحد منهم.
كانت تجربتي في الكتابة الشعرية تأتي في سياق تلك القراءات، وكثيرا ما كانت تمثلا لها. وشيئا فشيئا صرت أبحث عن صوتي الخاص، من دون أن أقتل آبائي في الشعر. ولعل هذا ساعدني كثيرا في اكتشاف ذلك الصوت باكرا، وخصوصا أنني أعتبر نفسي جريئة جدا في خوض غمار التجريب الشعري، بلا أي تحسّس من أي شيء. وما زال التجريب لعبتي الشعرية المفضلة. لا أخشى شيئا وأنا في لحظة القصيدة أو الكتابة كلها. أجرب كما أشاء، وأتعامل مع اللغة وكأنها لعبتي.. أنا من يخترع لها القوانين. ووفقا لهذه القوانين المخترعة من قبلي، أمضي في طريقي الإبداعي بمساعدة الأمل والتأمل.. ولا أبالي.
كان الشعر خياري الأجمل والأسهل والأفضل، ولأنه خيار غير مكلف ماديا ولا معنويا، كان من السهل علي أن أمضي بذلك الخيار إلى الأبعد، بعد أن افترضت لنفسي أنني أملك الموهبة.
لاحقا تشكّكت كثيرا في تلك الفرضية، والغريب أن شكي يزداد كلما مضيت في العمر وفي الكتابة وفي الشعر. هل أنا حقا شاعرة، أم أنني أحببت أن أكون ذلك، فافترضت ذلك وحاولت إقناع الآخرين بتلك الفرضية؟ لا أدري. ما أعرفه أنني ما زلت ممتنة للشعر عن أشياء كثيرة جدا في حياتي، وأولها أنه مهد لي الطريق للعب في دهاليز اللغة وغرفها السحرية، والبحث عن أسرارها الكثيرة، من دون خشية من أحد. فربما للشاعر وحده أن يفعل ذلك بقلقٍ يشبه قلق الفلاسفة، وبطمأنينة تشبه طمأنينة الأنبياء.
CC19B886-294F-4B85-8006-BA02338302F0
سعدية مفرح

شاعرة وكاتبة وصحفية كويتية، من مجموعاتها الشعرية "ليل مشغول بالفتنة" و"مجرد امرأة مستلقية"، ولها مؤلفات نقدية وكتب للأطفال. فازت بعدة جوائز، وشاركت في مهرجانات ومؤتمرات عدة.