على فوّهة بركان

على فوّهة بركان

18 أكتوبر 2018
+ الخط -
ربما لم تشهد بلادنا من قبل مثل هذه الحال: حيث يزداد على نحو مطرد تآكل الشعور الوطني والقومي العام، ونهش الذات وتعذيبها بشكلٍ يوحي بأن العقل الجمعي العربي يستلذ بتعذيب نفسه، والإمعان في تضخيم العيوب والمشكلات، وتصوير الخراب باعتباره الأصل، وما سواه عناصر طارئة على الصورة البائسة. والأهم من هذا كله أنه لم يعد هناك كبير، أو "وثن" رسمي بمنأى عن النقد وربما التكسير، فقد وفّرت منصات الإعلام الشعبي الفرصة لكل من لديه هاتف ذكي أن يقول ما يريد، مباشرة.
ولا تدخر السلطات "المختصة" أو "ذات العلاقة" على اختلافها في بلاد العرب، جهدا في توفير الحطب لهذه النار المشتعلة، فهي تفاجئنا كل يوم بقراراتٍ وإجراءاتٍ، وجرائم أيضا، من شأنها أن تذكي مشاعر الإحباط والألم والحسرة والثورة أيضا، من دون أن يبدو أن هناك نورا في نهاية النفق، بل إنها تكاد أن تكون شبه غائبة، أو على الأقل هكذا نشعر، عن هذا المرض الخطير الذي يفتك بالضمير الجمعي الذي يعاني من خذلانٍ متزايد، لا نعلم إلى ماذا يفضي، إذا ازداد الضغط أكثر فأكثر على أعصابه.
في غياب رواية رسمية مقنعة عن حقيقة ما يجري، تنتعش السيناريوهات والشائعات، ويفعل "البث المباشر" فعله في بث روح الهزيمة والتقوّلات وإلهاب المشاعر التي بعضها صحيح وبعضها باطل. وحكاية "البث المباشر" معقدة، فلدى كل مواطن الآن محطة بث تحت يديه ليلا ونهارا، بالصوت والصورة، وفي أي وقت، فقد هدمت تكنولوجيا التواصل الاجتماعي حواجز الزمان والمكان، وصار كل مرتادٍ لها صاحب قرار في أن يقول ما يريد، في الوقت الذي 
يريد، وعن كل ما يريد، وتلك لحظة فارقة في تاريخ البشرية، حيث لا حدود للزمكان، فالساعة لم تعد أربعا وعشرين دقيقة، واليوم لم يعد أربعا وعشرين ساعة، ففي بضع دقائق يمكنك أن ترى وتسمع وتبث وتكتب ما كان يحتاج في زمن مضى إلى أيام وشهور، وربما سنواتٍ، وليس بمقدور قانون جرائم إلكترونية أو موسوعة قوانين حتى أن تسيطر على هذا الفضاء اللانهائي، إلا أن تزرع في العنصر الفاعل، وهو الإنسان الذي يرتاد منصّات التواصل، ضميرا حيا يقظا، يشعر بالأمان، ويطمئن أن له مكانة محترمة في المنظومة الحياتية برمتها، رأيه محترم، وحقّه مصون، وشعوره غير مهان، وبدون ذلك، انتظروا الطوفان.
والطوفان هنا من الصعب أن يتخيله أحد، أو أن يعرف كنهه، أو حدوده، فهو انفجارٌ ما، غير محدود الأثر والعواقب، لأنه نتيجة عناصر مركّبة من الإحباط والخذلان والمظالم والحرمان، ومشاعر متداخلة من الإهانات السياسية والاقتصادية، وربما العاطفية، يغذّيها سيل من الأخبار والإشاعات والمعلومات المسموعة والمقروءة والمرئية، حتى ليشعر العاقل أننا نجلس على فوهة بركانٍ لا تدري متى يثور، ويلقي بحممه في كل الاتجاهات.
ما سبق مجرد تشخيص للحالة، وقد يكون مبالغا فيه، وقد يكون واقعيا إلى حد بعيد، فكيف تتم المواجهة والعلاج، أو قل السيطرة على الوضع؟ الجميع هنا في قارب واحد، والضرب يجب أن يكون على يد كل من يحاول أن يثقبه، من دون نظر إلى المكانة التي يحتلها، أو المنصب الذي يتبوأه، وتلك حكاية أخرى قد تكون أكثر تعقيدا من كل ما سبق، وقد تكون فرصة "الضرب" قد فاتت، والله أعلم، ليس لأنها مستحيلة، بل لأن ثمة شعورا عاما بأنه ليس ثمّة إرادة أو قرار حاسم بإنقاذ القارب قبل أن يغرق.
من السهل على أي حريص أن "يقترح" على أصحاب الحل والعقد ماذا يفعلون، لكن الصعب هو معرفة ماذا يدور في صندوقهم الأسود، وما إذا كان "الظرف" يسمح بالبوح أم لا. ولكن على كل الأحوال والأهوال، بلغنا مرحلةً لا ينفع فيها الصمت، فحالة السيولة إياها، وعدم اليقين، يمكن أن تفضي إلى السيناريو الأسوأ الذي لا يريد أيٌّ ممن قلبهم على بلادنا أن نصل إليه، و"السيناريو الأسوأ" هنا أشبه ما يكون بالسر الذي لا يكاد يعرف كنهه أحد، فهو مفتوحٌ على كل الاحتمالات، وكلها شرور سوداء، لا يتمنّاها عدو لعدوه.
الأسوأ من كل ما مضى، إصرار آلة الإعلام العربي الرسمي على القول إنه ليس ثمّة ما يخيف، وأن كل الأمور تسير "على ما يرام"، وأن كل المخاوف والسيناريوهات السوداء مجرد تعبير عن حالة فزع غير مبرّرة، حتى إن "فرسان" الإعلام الرسمي والناطقين الرسميين يتحدثون في كل شيء، إلا فيما يريد الناس فعلا أن يعرفوه.
هل نقول: الحقوا البلاد والعباد؟ ولم لا، فرب كلمةٍ صادقةٍ من مصدر صادق موثوق تهدئ الروع، وتُخرس الألسنة المتربصة التي تطلق "بالونات الحرائق"، وتستمتع ببث روح القلق والخوف في قلوب العرب، على ما يجري، لأنهم لا يدرون حقيقة ما يجري، ولا إلى أين تأخذهم رياح الأحداث.
A99D1147-B045-41D9-BF62-AB547E776D3E
حلمي الأسمر

كاتب وصحافي من الأردن