عبد المهدي ولعبة "الباك مان"

عبد المهدي ولعبة "الباك مان"

17 أكتوبر 2018
+ الخط -
ليس في الوسع الجزم فيما إذا كان رئيس الوزراء العراقي المكلف، عادل عبد المهدي، قد لعب في فتوته لعبة "الباك مان" أم لا. ولكن يمكن القول إنه قد يكون عرف عنها واستهوته خاصة وقد قضى سنوات طويلة متنقلا بين أكثر من عاصمة أوروبية وشرق أوسطية في فترة ظهور الألعاب الإلكترونية، وانتشارها على نطاق واسع، وربما فكّر بعد تكليفه بتشكيل الوزارة الجديدة بأن يستلهم فكرة اللعبة المذكورة ومسارها في إجراءات اختيار الوزراء، لتخطي تدخلات القوى السياسية النافذة وضغوطها، من ذلك فتحه موقعا إلكترونيا لقبول طلبات الترشح للمناصب الوزارية في سابقةٍ لم نسمع بمثلها من قبل.
ولعبة "الباك مان"، لمن لم يتعرف عليها، تقوم في أصلها على سيناريو أن البطل مكلف بالسيطرة على موقعٍ مطلوب. وعليه، لكي يصل إلى هدفه أن يلتهم أكبر مجموعة من النقاط المبثوثة في طريقه، لكنه يجد نفسه داخل متاهةٍ عريضةٍ تحوي ممرات متشابكة ملتوية، في الوقت الذي تطارده فيه أخطبوطاتٌ عملاقةٌ تحاول القبض عليه، وترويضه للعمل لصالحها، وكلما ينجح في الإفلات من ملاحقة الأخطبوطات له، والتهام أكبر عدد من النقاط يكون قد اقترب من تحقيق هدفه، لكن ذلك لا يعني نهاية اللعبة، إذ ثمّة مرحلة تالية تتشابك فيها الممرّات وتتعقد، وقد تنجح الأخطبوطات التي تحيط به في القبض عليه أو تدفع به خارجها!
أدرك عبد المهدي مبكّرا أن لعبة التشكيلة الوزارية في العراق تكاد تكون نسخةً منقحةً من لعبة "الباك مان". ولذلك فضّل، في البداية، الوقوف على التل، ومراقبة ما يجري، والإعلان، لعل 
ذلك من باب التمويه، عن أنه لا يستطيع القيام بمهمةٍ كهذه لوجود عوائق كثيرة أفصح عن بعضها، ولمح لبعضها الآخر، وقبل أن يتحوّل إلى "رئيس مكلف"، قال إنه لن يتحمل المسؤولية لأن ثمة قوى داخل المنظومة السياسية سوف تعرقل عمله، "قوى قد تتضرّر عند تطبيق إجراءات جدية لإصلاح الاقتصاد ومحاربة الفساد والبطالة.. وتقوية وترشيد عمل النزاهة والرقابة.. ومنع الحشد والبشمركة وغيرهما من ممارسات خارج القانون والصلاحيات.. ومنع الجماعات العشائرية من استخدام السلاح والتهديد.. ووقف الممارسات التي تتنافى مع القانون وحقوق الإنسان.. ورفض أي وجود عسكري أو أمني (خارجي) غير نظامي بدون تنسيق مع الحكومة. .. إلخ".
في مقالة أخرى له، روى حكاية شعبية، قال إنها ترسم صورة للواقع السياسي الماثل. تتحدث الحكاية عن "نشالين" يستغلون زحمة السوق للإيقاع ببعض المغفلين وسرقتهم، فاذا ما انكشف الأمر، وتداعى الناس إلى القبض على بطل العملية، يتجمع النشالون لإحداث جوّ من الفوضى، يساعد على هروبه، يضيف إن عمل النشالين تطوّر فيما بعد إلى درجة أنهم، عند انكشاف واقعة النشل، يتجمعون للامساك بالضحية والادّعاء بأنه الذي قام بالسرقة، وهنا يكون النشال الحقيقي قد اختفى.
يخلص عبد المهدي من روايته إلى "أن السياسيين (مثل النشالين) تطور عملهم جيدا، وتمكّنوا من خلق أجواء اجتماعية تنحاز لصالحهم، واشتروا إعلاما يصد الشبهات عنهم، ويسقط خصومهم فلم يفسدوا السياسة أو الإدارة فحسب، بل أفسدوا عقل المجتمع، وضربوا وعيه، ووجّهوه حيث يريدون، فأصبح مجتمعنا لا يميز الناقة من الجمل، ويصلي الجمعة في الأربعاء".
هكذا شخص عبد المهدي واقع الحال، وفضل أن ينزوي بعيدا، وعندما استعاد ما يعرفه عن لعبة "الباك مان" فكّر أن يجرّب حظه، لعله يستطيع أن يعبر الممرّات المتشابكة الملتوية التي تزخر بها "العملية السياسية" التي كان أحد أقطابها، قبل أن يقرّر الاعتكاف: عضوا في مجلس الحكم، ووزيرا لأهم وزارتين (المالية والنفط)، ونائبا لرئيس الجمهورية، تسعفه تجربته في انتقالاته العتيقة وغير المفهومة بين حزب البعث والجماعة الماوية والتيارات الإسلامية وصولا إلى المجلس الأعلى للثورة الإسلامية، وخروجه من هذا الخليط المتناقض محتفظا برأسه سالما، وبقدرته على مسك العصا من الوسط بجدارة.
وفي سعيه الحالي إلى تشكيل الوزارة بالطريقة التي يريدها، يتعرّض عبد المهدي إلى ضغوط "أخطبوطات" العملية السياسية، وإصرارها على الحصول على الوزارات التي تريدها، بهدف إدامة نفوذها وتطمين مصالحها. وفي هذه الحال، ليس أمامه سوى الرضوخ، أو الانسحاب، تاركا لغيره إدارة اللعبة، وقد يجد مرة أخرى أن الانصراف لتوثيق حكايات شعبية تفضح سيرة رجال الحكم أنفع له من التوّغل في لعبة السلطة، بعد أن ذاق شيئا من حلاواتها ومراراتها.
583FA63D-7FE6-4F72-ACDD-59AE85C682EB
عبد اللطيف السعدون

كاتب عراقي، ماجستير علاقات دولية من جامعة كالجري – كندا، شغل وظائف إعلامية ودبلوماسية. رأس تحرير مجلة "المثقف العربي" وعمل مدرسا في كلية الاعلام، وشارك في مؤتمرات عربية ودولية. صدر من ترجمته كتاب "مذكرات أمريكيتين في مضارب شمر"