متاهات الخطاب الإعلامي السياسي في الجزائر

متاهات الخطاب الإعلامي السياسي في الجزائر

17 أكتوبر 2018
+ الخط -
قد يصل المسؤول، في الجزائر، عندما يكون ممسكاً بدواليب السلطة، إلى مرحلة يصبح معها كاتباً للتاريخ، ومراجعاً له، ليكون مضمون هذا التّأريخ في مسار منطق حكمه ومقاربته للشأن العام، من خلال الغلق التام للعبة السياسية والإبقاء فقط على صوت واحد يتحدّث، والبقيّة تطيع وتصمت. يعدّ ذلك، في العرف السياسي الجزائري، فرضاً لقراءة موجّهة، فوقيـة ومستقطبة في سبيل ترسيخ استحالة التغيير أو تأجيله، على الأقل، لإشعارٍ حدّده الأمين العام الحالي للحزب الحاكم، في تصريح له مشهود، بقرن وزيادة، من الآن.
ربّما يكون هذا هو الوصف اللاّئق بما جاء في ندوة صحافية لرئيس الحكومة الجزائري، أحمد أويحيى، 6 أكتوبر/ تشرين الأول، وحاول فيها الإيعاز بوجود مقاربة للحكم تتجاوز الإمساك بدواليب السلطة، ورسم السياسة العامة بطريقة انفرادية، وصولاً إلى كتابة التاريخ ومراجعته، ليتناسب مع مضمون هذه المقاربة. حيث أعاد، على مسامع الجزائريين، قراءة لأحداث ما وُصف، منذ ثلاثين عاماً خلت، على أنّها "الربيع الجزائري"، والتي شهدتها البلاد في 1988، في الخامس من أكتوبر/ تشرين الأول، وفُتح، عقبها، الباب واسعاً أمام التعدّدية السياسية والحريّات العامّة.
قال الوزير الأول إن تلك الأحداث كانت "مؤامرة سياسوية"، مرتباً لها جيداً، مستشهداً بقرائن وصفها بالأدلة على ذلك، ومنها تجريد رجال الشرطة من أسلحتهم، أياماً قبل "موعد ساعة الصفر" للمؤامرة، وفق ما قال. على ماذا يدل ذلك كله في سياق الخطاب السياسي الحالي داخل السلطة (الموالاة)، وفي ما تسمّى "المعارضة"؟.
يرمز الخطاب السياسي، المشار إليه، إلى جملة من الحقائق قد تنطلق، بداية، من استحالة 
الغوص إلى كنه "العلبة السوداء" التي يُصنع من خلالها القرار الجزائري، حيث لا يمكن فهم صيرورة ذلك القرار، ولا هرميته، وذلك كله مرتب حتى لا يصل المخمّن، المحلّل أو الدّارس للنّظام الجزائري، إلى مؤشّرات لفهم منطق مقاربته للشأن العام، ومنها كيف يصدر القرار، ومن يشرف عليه. ومثال ذلك كله، في هذه الفترة، ما يجري في قضية البرلمان، ومطالبة نوّاب "الموالاة" من رئيس الغرفة السفلى الاستقالة من دون أن يكون لذلك منطق إلاّ التغطية على ما يجري وسيجري إلى شهر نيسان/ أبريل 2019، موعد رئاسيات هي رهان البلاد في المستقبل.
إذا كان هذا هو منطق مقاربة منظومة الحكم للشأن العام، فان منظومة خطابه يجب أن تكون متناسبة أيضاً مع ذلك المنطق، ومنها، في إشارة ثانية، الإيعاز إلى من لا يتحكّم في أبجديات العملية الاتصالية/ التواصلية للإدلاء بالتصريحات الرسمية العرجاء، الواحدة تلو الأخرى، وخصوصاً مع وجود وسائل الاتصال الاجتماعية التي تضاعف من حجم تلك الأخطــاء، وانعكاساتها على صورة النظام، بل ومنطق عمل الشأن العام ومصداقيته لدى الرأي العام والمواطنين، بصفة خاصّة.
كما يمكن الحديث، في إشارة أخرى إلى سياق الخطاب الرسمي، عن التساهل في منهجية إدارة الأزمات، وتعمّد إرجاعها، حتّى في حالة الكوارث الطبيعية والأوبئة الكبرى، إلى المواطن، حيناً، وإلى مصالح الأرصاد، أحياناً أخـرى، في إصرارٍ لا مثيل له في الابتعاد عن تحمّل المسؤولية في التّقصير، سواء في الإدارة أو في الاستجابة لطارئ ما يحدث، ومن أمثلة ذلك، مرض الكوليرا والسيول أخيراً.
وصولاً، هنا، إلى محاولة الوزير الأول، أحمد أويحيى، نشر قراءة جديدة لأحداث مفصلية شهدتها البلاد، وشكّلت الفارق في تاريخ الجزائر المستقلة بين نظام الحزب الواحد والتعددية والحريات العامة، وهي قراءة تقزّم وتهوّن من شأن تلك الأحداث، وصولاً إلى القول إن كلّ ما من شأنه الارتباط بإرادة التّغيير هو، في عرف صانع القرار الجزائري، "مؤامرة سياسوية" أو "أيادٍ خارجية".
في الحقيقة، كانت تلك الأحداث، برواية من شهدها أو كان من الفاعلين فيها، ربيعاً جزائرياً انطلق عفوياً، وانتشر إلى عموم التراب الجزائري، وتم التعامل معها بشدة وبقوة مفرطة، حيث وقع عشرات الضحايا ومئات الجرحى، وأدّت، شهوراً بعد ذلك (بداية عام 1989)، إلى تعديل الدستور، إلغاء نظام الحزب الواحد ودخول الجزائر عهد التعددية في الفترة نفسها، تقريباً، من سقوط القطبية الثنائية وانتشار الموجة الثالثة من المد الديمقراطي في أوروبا، أميركا اللاتينية و إفريقيا (انطلقت شرارة الربيع الجزائري في أكتوبر/ تشرين الأول 1988، وجاء سقوط جدار برلين، عاماً بعد ذلك).
بالنتيجة، ما ألمح إليه أويحيى هو إقناع الجزائريين بأن ثمّة قدرة لدى النظام، ليس فقط لتأجيل التغيير، بل يتجاوزه إلى ما هو أكبر "مراجعة لحقائق التاريخ" و"كتابته وفق إرادة السلطة". ويكون ذلك، أيضاً، تغطية على الانحدار الذي وصلت إليه لغة الخطاب الإعلامي السياسي من قبل من اختارتهم السلطة، للتعبير عن وجهات نظرها، والذين أصبحوا، الآن، يسرّبون مكالمات هاتفية، ويبتزون السلطة على مساندتهم لها، وهو، في الحقيقة، ما يتوافق مع تلك الرغبة من الوزير الأول في التأكيد على أن الخطاب الإعلامي يمكنه التماهي مع ما وصلت إليه منظومة الحكم من القدرة على الغلق التام لأي حراك، وإقناع الرأي العام باستحالة تخيل توجه سياسي ما خارج إرادة من يصنع التوجه و المسار، ولو كان بذلك المستوى المتهاوي، أكثر فأكثر، في الصورة وفي الخطاب.
وإذا أمعنّا النّظر في إرادة التّغطية على الرّهانات الحقيقية، فإن الاستراتيجية السياسية في 
التعامل معها تبدو، على المستوى الخارجي، بداية، فاشلة تماماً بالنظر إلى حجم التحديات، مثل إمكانية التعرض لعقوبات أميركية بسبب التكتل مع "أوبك" لرفع أسعار النفط فوق مستوى ما يعتبره الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، "السّعر العادل" بالنسبة لاقتصاده. من ناحية أخرى، وعلى المستوى الخارجي، هناك انتقاد فرنسا لقرار سيادي جزائري بإمكانية الاستغناء عن القمح الفرنسي، والتوجه نحو شراء القمح الروسي الأجود والأقل سعراً، وهو ما لم ترد عليه السلطات الجزائرية. وقد يشار أيضاً، في هذا المقام، إلى التحرّكات التي تتم من إيطاليا لفرض حل للأزمة الليبية من دون الاكتراث بالدور الجزائري الحيوي، وهو ما يؤكد على أن رهانات الخارج مهمة ومحرجة حقاً، وتحتاج إلى استراتيجية.
على المستوى الداخلي، الرهانات كثيرة، قد يكون ما يحدث من تجميد لمؤسسة الغرفة السفلى من البرلمان واحداً منها، إضافة إلى رهان الرئاسيات القريبة غير الواضحة تماماً. وقد تضاف إليها رهانات اقتصادية واجتماعية أخرى، يلفّها لغط كثير، ما يستدعي لغة إعلامية وخطاباً رصيناً ومهنياً من محترفين، وليس ما نراه صادماً للرأي العام الجزائري.
يستدعي الوضع تفكيراً ومراجعة ليس للتاريخ، كما يفعل الوزير الأول وغيره من المتصدّرين للخطاب السياسي الإعلامي السلطوي، بل وضعاً لاستراتيجية إعلامية وسياسية في مستوى تلك الرهانات التي جيء هنا على بعضها، والتي تكبر، يوماً بعد يوم، وتكبر معها المشكلات. تمتلك الجزائر حقيقةً، كفاءاتٍ في وسعها التصدي للرهانات مهما صعبت، ولكن ذلك يحتاج إرادة سياسية وتغييراً، بل تحولاً في العقليات ليس موجوداً الآن، وينبغي الإسراع في إيجاده، إذا أردنا تجسيد التغيير، وبناء جزائر قوية، وإنّ غداً لناظره لقريب.