نادين لبكي وكلوديا مرشيليان

نادين لبكي وكلوديا مرشيليان

16 أكتوبر 2018
+ الخط -
لا تجتمع المخرجة السينمائية المعروفة عالميا، نادين لبكي، وكاتبة الدراما التلفزيونية المعروفة عربيا، كلوديا مرشيليان، إلا حيث التقى قبلهما، وما زال يلتقي، عددٌ كبير من المبدعين اللبنانيين، الرائجين والمسيطرين على ملامح الصور البصرية التي تقدِّم إلينا وإلى العالم، سينمائيا وتلفزيونيا، نظرةً معينةً عن بلدنا لبنان. والحديث هنا عن "نظرة" معيّنة، ندرجه بالمعنى الذي حمّلته الكاتبة والمفكّرةُ الأميركية، سوزان سونتاغ، للصورة الفوتوغرافية، إذ تقول: "الصور الفوتوغرافية التي تعبث بنظام العالم تصبح هي نفسها مختزلة، مكبرة، مقتطعة، مرتّشة، معدّلة ومحتالة".
تبلّغنا النظرةُ السينمائية أو التلفزيونية في المحصّلة صورة محدّدة. وإن كانت، على عكس الصورة الفوتوغرافية الجامدة، منفلتةً من كل إطار وترافقها الحركة، فهي تنتهي، في حاصلها، إلى تثبيت صورة جامعة واحدة في مخيّلة المشاهدين. هي تلك الصورة بالذات ما يستوقفنا اليوم في عملين حديثين: الأول سينمائي وعنوانه "كفرناحوم" للمخرجة لبكي، والثاني مسلسل تلفزيوني بعنوان "ثورة الفلاحين" للكاتبة مرشيليان، وهي صورة تختلف النظرة إليها باختلاف الموقع والثقافة والانتماء.
فيلم كفرناحوم الذي راج عنه أنه يسيل الدموع وتصفق له الجماهير غربا وشرقا لن ينعم بنظرة حقيقية تمرّره عبر الأشعة "إكس"، إلا إذا كانت عينُ الناظر إليه ناقدة ومثقفة ومتمرّسة (وهي حال نقّاد غربيين كثر)، أو عين الواقع نفسه الذي يدّعي تصويره (وهي عين معظم النقاد اللبنانيين الذين فنّدوا مواضع الضعف فيه، وأخذوا عليه ضيق أفقه ومحدودية رؤيته). وعلى الرغم مما يُحسب للفيلم من حسنات تقنية، ولمسات فنية واضحة، يبقى شاغلنا تلك الصورة "الأفقية" التي يقدمها المخرج اللبناني عامة عن بلده، ونادين لبكي خاصة، أي الصورة "المختزلة، المكبرة، المقتطعة، المرتّشة، المعدّلة والمحتالة"، كما أشارت سونتاغ إليها. أما الصورة الأفقية، فهي في عُرفنا تلك التي تتقدّم سطحيا، ملتقطة كالمغنطيس كل ما تمر به ويمرّ بها، من دون أن يستوقفها تفصيلٌ بعينه، واقعٌ، أو شخصية، كي تسبرها عاموديا، عميقا، وصولا إلى القاع. فالإكثار في جمع التفاصيل للإلمام بواقع ما، من دون الحفر فيه، سيبقيك حتما خارجه، لأنه مثيل الطيران فوق بقعة جغرافية من دون النزول إليها، وتصويرها من علٍ، وليس بمقياس الإنسان فيها، فما معنى اللجوء إلى "بِدعة" الولد الذي يريد محاكمة أهله، لأنهم أنجبوه في فيلمٍ يريد لنفسه أن يكون شبه توثيقي، وما غاية الإكثار من عدد البائسين والأشقياء وقصصهم، إن غابت المقدرة على الحفر في بضعة سنتمتراتٍ تشغلها شخصية واحدة، كشخصية البطل زين؟ وتحضر هنا السينما الإيرانية نموذجا في أسلوب تعاطيها مع شجن الأطفال وبؤسهم، ببساطة وأمانة، ودونما مبالغة واستعراض.
في المسلسل التلفزيوني الذي يعرض حاليا، بعنوان "ثورة الفلاحين"، سنتناول السيناريو لا الإخراج، كون الأخير لا يعدو أن يكون ترجمةً بصرية للمكتوب. يجري التعامل هنا مع التاريخ، لا مع الواقع، وهو أيضا يتلاعب به ويتحايل عليه، فالدراما اللبنانية على ما يبدو لا تحبّ التاريخ، لأنه ربما مصدر إرباك وخشية ممّا قد تتُّهم به، عداوة أو انحيازا لتاريخ تتعدّد قراءاته وتتضارب. ومع ذلك، استلهام التاريخ متاح، بل ثمّة عناصر لا يمكن إغفالها كالمرجعية التاريخية، والاعتماد على مصادر وبحوث، وتوثيق العادات والأعراف والديكور والأزياء واللغة المستخدمة، إلخ...
الهرب من التاريخ اللبناني، من قراءة تاريخية تضع الأحداث (1840 – 1860) في إطار الصراع الدولي على تركة السلطنة العثمانية، وفي إطار النزاعات الداخلية التي أجّجتها تناقضات اجتماعية، هيأت لاندلاع الانتفاضة ضد الإقطاع، متمثلا في آل الخازن وحبيش، ومن ذكر العوامل الدولية والإقليمية والتناقضات الداخلية التي تحوّلت من صراع داخل الطائفة المارونية إلى صراع بين الموارنة والدروز، لم يودِ بمسلسل "ثورة الفلاحين" إلى مكان بديل يروي إنسانا مستلبا ومقهورا، مغلوبا على أمره، ومعرّضا لكل أنواع الظلم. بل إنه على العكس من ذلك، قد أدخله في متاهة التسطيح والتكرار والعشوائية، فبقيت الأحداث "أفقية"، والشخصيات أسيرة رسمها الأوّلي، مع حوارات هي أقرب إلى الوعظ والإنشاء.. بالطبع، لا يخلو المسلسل من مزايا، فالإنتاج ضخم وطموح (جمال سنان)، وبعض الممثلين يبرعون ما قدّر لهم أن يفعلوا مع نصٍّ يشكو الركاكة وإخراج يعرج.
لسنا من محبّي الانتقاد والتهشيم، فالأعمال اللبنانية التي لا تصل إلى خواتيمها تحزننا، والأعمال المجهضة والفاشلة تحزّ في نفوسنا. إنما مع كل الحب والتواضع، لا يحتاج الواقع استعراضا لتصويره، ولا يحتاج التاريخ مراوغةً للخوض فيه، لأن النتيجة ستأتي خائبةً منقوصة، تتركنا على خيبةٍ وجوع.
نجوى بركات
نجوى بركات
كاتبة وروائية لبنانية ومؤسسة محترف "كيف تكتب رواية"