ثمن الحماية الأميركية

ثمن الحماية الأميركية

15 أكتوبر 2018
+ الخط -
وفقا لأحدث تقارير خدمة أبحاث الكونعرس الأميركي عن العلاقات السعودية الأميركية (سبتمبر/ أيلول 2018)، بلغت الصادرات السعودية إلى الولايات المتحدة في عام 2017 حوالي 18.8 مليار دولار أميركي، معظمها صادرات نفطية. في المقابل، استوردت السعودية من أميركا ما قيمته 16.3 مليار دولار في العام نفسه، معظمها أسلحة. وهذا يكشف حجم التوازن الكبير في الميزان التجاري السعودي الأميركي، فالسعودية تبدو حريصة على شراء سلاح أميركي، في مقابل ما تبيعه لأميركا من نفط.
وبهذا تحصل أميركا على فائدة مزدوجة، فالسعودية لا تحصل على السلاح مجانا. وقد قال ذلك ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، لوكالة بلومبيرغ الأميركية (5 أكتوبر/ تشرين الأول الحالي). حيث ذكر في رده على سؤال بخصوص مطالبة الرئيس الأميركي دونالد ترامب المتكرّرة للسعودية، أخيرا، بدفع مزيد من الأموال لأميركا مقابل حمايتها، أن بلاده لا تحصل على السلاح الأميركي مجانا. أضف إلى ذلك حرص السعودية على ضخ استثمارات ضخمة في الولايات المتحدة وشراء سندات حكومية أميركية، وهي استثمارات تقدر بمئات المليارات.
حرص السعودية على شراء أسلحة أميركية، وضخ استثمارات سنوية في الاقتصاد الأميركي بعشرات المليارات، في مقابل تكرار ترامب مطالبته السعودية أخيرا بدفع مزيد من الأموال في مقابل الحماية، يدفعنا إلى التساؤل عن أسباب إصرار ترامب على تلك المطالب، وعن الحقائق التي يستند إليها. فكم تتحمل أميركا من تكاليف في مقابل وجودها العسكري في الخليج؟ وماذا تحصل عليه في المقابل؟ وهي أسئلة في قلب الشراكة الأميركية - السعودية.
لا تحتوي ميزانية وزارة الدفاع الأميركية (حوالي 640 مليار دولار في العام الحالي)، على 
تقديراتٍ واضحة لتكاليف الوجود العسكري الأميركي في الخليج أو حول السعودية، فالميزانية العسكرية الأميركية تقسم الإنفاق وفقا لقطاعات القوات العسكرية الأميركية، كالطيران والبحرية والمشاة... إلخ، ولا تقسم الإنفاق وفقا لمناطق وجود تلك القوات.
وبعد غزو العراق، ظهرت تحليلات كثيرة تحاول تقدير حجم هذا الإنفاق. حيث قدّره بعضهم بحوالي مائة مليار دولار سنويا في أواخر العقد السابق. ولكنها تظل مجرّد تقديراتٍ لا يتم تحديثها بشكل رسمي أو مستمر. كما أنها لا تأخذ في الحسبان ما يعود على أميركا من عوائد من وجودها العسكري في المنطقة. حيث تحتفظ الولايات المتحدة بقواعد عسكرية في دول عديدة في المنطقة، ينتشر فيها حوالي 35 ألف جندي، موزعين على دول كالإمارات وقطر والبحرين والكويت وتركيا وجيبوتي.
وهذا يعني أن الوجود العسكري في المنطقة لا يهدف إلى حماية السعودية ودول الخليج وحدها، لكنه يأتي ضمن استراتيجية أميركية أكبر لحماية دول حليفة لها، كإسرائيل مثلا، والتي تحصل على مساعدات عسكرية أميركية سنوية تقدر بثلاثة مليارات دولار. ومع ذلك لم يطالبها ترامب بدفع أموال مقابل حمايتها. بل يرى ذلك واجبا على أميركا. ويبالغ في دعم حكومتها المتطرّفة. أضف إلى ذلك أن إسرائيل عامل أساسي في دفع ترامب إلى مواجهة إيران والضغط عليها. ومن ثم يصعب القول إن ترامب يقوم بذلك فقط من أجل عيون المملكة وبعض الدول الخليجية صاحبة التوجه المتشدّد تجاه إيران.
السبب الأخر لوجود أميركا العسكري في المنطقة، وربما الأهم، هو حماية موارد النفط القادمة من الخليج بشكل عام، ومن السعودية خصوصا، فالمنطقة، سيما السعودية، تمتلك الاحتياطي الأكبر للنفط في العالم. والمملكة هي الدولة الأقدر على التحكّم في السوق العالمي للنفط، بسبب قدرتها على زيادة إنتاجها في المدى المتوسط لسد أي نقص مفاجئ في الأسواق العالمية. وخلال السنوات الأخيرة، باتت دول آسيا المستورد الأكبر (أكثر من 60%) لصادرات النفط السعودي. كما قلّ اعتماد أميركا على النفط الخليجي، بحكم اكتشافات النفط الصخري.
وهذا يعني أن أميركا باتت أقل اعتمادا على نفط الخليج. وربما يبرّر ذلك مطالبة ترامب بمزيد من الأموال، في مقابل وجود قواته في الخليج. ولكن أميركا ما زالت تستفيد من وجودها العسكري بالقرب من نفط الخليج لأكثر من سبب اقتصادي، فشركاتها النفطية تحصل على عقود ضخمة للإنتاج، وأرباح تقدر بالمليارات سنويا، وربما تمثل اللوبي الأقوى في التأثير على القرار الأميركي تجاه السعودية والخليج، لكنها تعمل في الخفاء، فالميزان التجاري السعودي الأميركي لا يظهر فيه حجم الأرباح التي تعود على الشركات الأميركية من العمل في الخليج. وهي أرباح تذهب إلى أثرياء أميركا، ولا تظهر في الموازنة الأميركية، إلا ضمن إجمالي الضرائب، تدفعها تلك الشركات، في ظل حالةٍ من التعتيم الإعلامي والسياسي الأميركي الداخلي عليها، فقد تحرص الشركات الأميركية على بقاء الجيش الأميركي في الخليج لحماية استثماراتها، وضمان حصولها على مزيد منها بشروط ممتازة. لكنها لن تدفع مزيدا من الأموال للجيش الأميركي في مقابل تلك العقود. ولن تسمح حتى بتحول أرباحها وعوائدها إلى قضية رأي عام، في ظل تحمل المواطن العادي، من خلال ضرائبه، لجزء كبير من تكلفة وجود القوات الأميركية في الخليج حماية لتلك الاستثمارات.
أضف إلى ذلك أرباح الشركات الغربية العاملة في منطقة الخليج، وحرص القوى الاقتصادية الكبرى، كالصين واليابان، على ضمان استقرار النفط من دول الخليج، وخصوصا السعودية، لضمان سلاسة حركة الاقتصاد الدولي. وهذا يعني أن قائمة المستفيدين من النفط الخليجي أكبر بكثير من الدول الخليجية نفسها. وأن النخب الاقتصادية الغربية والدولية من أكبر المستفيدين من الوجود العسكري الأميركي في المنطقة، بحكم ما يعود عليها من أرباح.
وبدون شك، تستفيد الدول الخليجية من الوجود العسكري الأميركي في صورة استقرار أمني 
وسياسي يعود إيجابيا على تنميتها. وهي ليست الوحيدة في ذلك، فدول حلف شمال الأطلسي (الناتو)، ومن بينها قوى دولية عظمى، تستفيد من تحالفها العسكري المعلن مع الولايات المتحدة. وقد سبق لترامب مطالبتها بتحمل مزيد من تكلفة الدفاع عن أمنها، من خلال زيادة ميزانياتها العسكرية من ناحية، وتحمل مزيد من تكاليف حلف الناتو من ناحية أخرى. ولكن ترامب لم يحذّر أنظمتها من الزوال خلال أسابيع، في حالة عدم دفع مقابل غير معلوم للحماية الأميركية، ولم يتحدّث عن حكامها في فراغ سياسي من دون الحديث عن مؤسّسات الحكم والدولة، مستدعيا صورا نمطية سلبية من تاريخ الغرب الاستعماري، حين كان المستعمر يضمن استقرار أنظمة حكم محلية موالية، بشكلٍ كامل تقريبا، ولو عارضتها شعوبها. وذلك في مقابل تسهيل تلك النخب حصول المستعمر على موارد شعوبها الطبيعية بثمن بخس.
مطالبة ترامب المتكرّرة العاهل السعودي سلمان بن عبد العزيز بدفع مزيد من الأموال نظير حماية بلاده حتى لا يزول حكمه خلال أسابيع، تحاملت كثيرا على النظام السعودي. حيث أغفلت قائمة المستفيدين من الوجود العسكري الأميركي في الخليج، وفي مقدمتها الشركات الأميركية والغربية العملاقة المستفيدة من نفط الخليج وحركة الاقتصاد العالمي، ودول حليفة لأميركا كإسرائيل والتي تحصل على مليارات سنويا في صورة مساعداتٍ من دون أن يطالبها ترامب بمقابل. كما صورت السعودية نظاما بلا مؤسسات دولة أو شرعية داخلية، لا يستطيع البقاء في الحكم أسابيع من دون حماية أميركا. ولم تفند المملكة تلك التصريحات، واكتفى ولي العهد السعودي، في حديثه مع "بلومبيرغ"، بالتأكيد على أن التصريحات شأن داخلي أميركي، وعلى سعادته بالعمل مع ترامب، ما لم يتدخل في شؤون السعودية الداخلية ككندا التي طالبت السعودية بالإفراج عن معتقلين سياسيين.