مصيدة عملياتية متبادلة في غزة

مصيدة عملياتية متبادلة في غزة

14 أكتوبر 2018
+ الخط -
بين التهدئة والتصعيد في غزة، وانفلات الأوضاع في الضفة الغربية، وتصعيد اعتداءات المستوطنين، مستظلين بسياسات المؤسسة الكولونيالية الإسرائيلية الحاكمة، وتحت حراستها وإشرافها، وحركشات رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو، ومزاعمه بشأن وجود صواريخ دقيقة ومستودعات لحزب الله قرب مطار بيروت؛ يؤشر هذا كله إلى مأزق الحكومة اليمينية المتطرّفة، وجيشها الذي لم يعد قادرا على الخروج من أزمة الخوف والقلق التي باتت تعتريه، في أعقاب الحرب الثالثة، وفقدانه يقين تحقيق انتصار ناجز في حربٍ رابعة متوقعة، يمكن للجيش أن يخوضها ضد أضعف الجبهات؛ جبهة غزة، كما يعتقد بعض جنرالاته، وبعض تقديرات مراكزه للدراسات الاستراتيجية الصادرة أخيرا.
وكانت صحيفة هآرتس الإسرائيلية ذكرت، في أواخر الشهر الماضي، أن تقديرات بعض جهات في جيش الاحتلال، عادت إلى رفع احتمالات اندلاع مواجهة عسكرية، وتصعيد ولو كان 
محدودا، في قطاع غزة؛ وأن الميدان الفلسطيني هو الحلبة المرجحة لتكون المنطقة الأكثر سخونة والمرشحة لاندلاع الأوضاع فيها. لافتة إلى أنّ التقديرات التي استعرضها رئيس أركان جيش الاحتلال، غادي أيزنكوت، قبل أسبوعين، أمام مجلس الكابينت السياسي والأمني للحكومة، أشارت إلى تعاظم خطر التصعيد في الأراضي الفلسطينية المحتلة، في ظل تعثّر محادثات المصالحة الفلسطينية، وحالة الإحباط لدى رئيس السلطة الفلسطينية، محمود عباس، بفعل العقوبات الأميركية والجمود التام في العملية السياسية.
على الرغم من ذلك، هناك تناقضات وتقديرات مختلفة، لا تقف كلها عند سوية واحدة من الاستنتاجات؛ من قبيل ما أشار إليه عاموس هرئيل في "هآرتس" أنّ تقديرات جيش الاحتلال لعام 2019 بشأن الميزان الاستراتيجي لإسرائيل تفيد بتحسّن الحالة الاستراتيجية، بفعل القوة العسكرية، والتحالفات الاستراتيجية التي نسجتها دولة الاحتلال مع الولايات المتحدة، لكن هوامش الأمن الإسرائيلي باتت أكثر ضيقاً من الماضي، "فالمنطقة وصلت إلى نقطة تنذر بانفجار كبير".
وبحسب ضباط ومسؤولين كبار في جيش الاحتلال، فإنّه في حال عدم إحراز تقدّم في المصالحة الفلسطينية، فإنّ اندلاع المواجهات العسكرية مع "حماس"، "ستبقى مسألة وقت لا غير". علما أنّ "هذه التحذيرات ليست نتاج موقف جديد في الجيش والمؤسسة العسكرية، بقدر ما هي استمرار لتحذيرات سابقة، أفادت بأنّ الأوضاع هي أقرب إلى المواجهة منها إلى التهدئة". وذلك استنادا إلى ما ذكره جيش الاحتلال عن رصده أخيراً، نشاطاً لحركة حماس وفصائل المقاومة في غزة، تعزّز التقدير بأنّ الحركة معنية بمواجهة، ولو محدودة مع إسرائيل، فحماس، بحسب التقديرات الجديدة، تريد إدارة المواجهات مع الجيش يومياً، وعلى مدار أيام الأسبوع، وليس فقط في أيام الجمعة، لغايات خاصة تتعلق بتشبثها بسلطة لها في غزة، لا تريد أن يشاركها فيها "أهل السلطة" في الضفة الغربية، الأمر الذي يجعل من المصالحة أمرا معقدا، لا يمكن أن يتحقق، حتى لو أدى الأمر لتصعيد عسكري يمكن أن يتطور إلى حرب رابعة؛ من نتائجها العملية تكريس انفصال غزة عن الضفة، تساوقا مع مخططات "صفقة القرن"، ورغما عن الموقف الرسمي الفلسطيني.
ومع هذا كله، تبدو الحركة في رهان أكبر على "مسيرات العودة وكسر الحصار" أكثر من أي وقت مضى، على الرغم من كلفة المواجهة غير المتكافئة، واستمرار "نزيف" الدم يومياً على حدود غزة. وبدا واضحاً أن مستوى الحشد الجماهيري، وعدد الفعاليات، وتنظيمها وقوتها وتنوعها في الأسابيع الأخيرة مؤشر على رهان "حماس" هذا، إذ توسعت بشكل لافت فعاليات الحرائق اليومية و"الإرباك الليلي" والحراك البحري، ومواجهات الحدود.
مع هذا كله، تبدو الحرب الرابعة أقرب من أي وقت مضى، في وقت تؤكد تقارير واستنتاجات 
مختلفة، أنه، وعلى الرغم من أن اندلاع مواجهة شاملة لا تخدم مصالحهما (إسرائيل وحماس)، إلا أن كل المؤشرات تدل على أنهما تسلكان مسارا يقود إلى هذه المواجهة، إن استمر تراجع فرص إنجاز اتفاق تهدئة يسهم في تحسين الأوضاع الاقتصادية والإنسانية. في وقت تجاهر بعض القيادات السياسية، وبعض محافل التقدير الاستراتيجي الإسرائيلي، بأن اندلاع مواجهة عسكرية في غزة، لن يفضي إلى تحقيق أي هدف استراتيجي لإسرائيل، بل إن هذا التطور يمكن أن يقود إلى توريطها هناك، فيما لو اضطرت للدخول في مواجهات برّية، إلى أمد قد يطول، في ظل تعاظم مخاطر حالة انعدام اليقين على الجبهة الشمالية.
وذكرت صحيفة إسرائيل اليوم العبرية الأحد الماضي (7/10) أن القائد السابق لسلاح المدرعات بجيش الاحتلال رونين إيتسيك، قال إن "تنفيذ عملية عسكرية ضد غزة هي مسألة وقت ليس أكثر، وفيما إذا قرّرت إسرائيل القيام بها، فيجب أن تذهب إليها بصورة مبادرة ومفاجئة، من دون أن تجلب استدراجات عملياتية، ويجب الاستفادة من دروس عملية الرصاص المصبوب في غزة عام 2008، حين نفذ جيش الاحتلال عملية قصف جوي شاملة في كل أرجاء القطاع دفعة واحدة، لكن يجب أن تكون نهايتها مختلفة كليا عن النهاية السابقة". ويشير أيتسيك إلى أنه بعد فشل الوصول إلى اتفاق للتهدئة "سنكون في قادم الأيام أمام تصعيد جديد، ما يتطلب طرح أسئلة عما يمكن أن يتغير من هذا التصعيد القادم، الإجابة قد لا تكون مفاجئة، فإن شيئا لن يتغير، إلا إذا قررت إسرائيل المضي حتى النهاية في عملية مكثفة تعمل على تغيير الوضع من أساسه، وعلى (حماس) أن تدرك أنها المواجهة الأخيرة لها".
عموما، وفي الآونة الأخيرة، بات القائلون بترجيح احتمالات التصعيد أكبر بكثير من القائلين باحتمالات التوصل إلى تهدئة في غزة، لكن هذه المرة، لا يبدو أن الحرب قد تنطلق على خلفية خدعة ما تستدعيها أو تبررها، فالتصريحات الإعلامية باتت تعلن أن عملية عسكرية ضد غزة بدأ الاستعداد لها، وهي واقعة لا محالة، في ظل الانسدادات الأكثر تعقيدا في حياة الصراع الفلسطيني ضد كيان المؤسسة الكولونيالية الإسرائيلية؛ حيث نقلت القناة الثانية العبرية مساء الأحد الماضي 7/10 أن نتنياهو أبلغ وزراء الكابينيت أن ائتلافه الحاكم يستعد للإذن للجيش بالاستعداد لعملية عسكرية، ونقلت عنه "إنه في حال تفاقمت الأزمات الإنسانية والاقتصادية في قطاع غزة، فمن المتوقع حدوث تصعيد عسكري في الجنوب، ونحن نستعد لعملية عسكرية بالقطاع، وهذه ليست مجرد كلمات فارغة". وتابع نتنياهو: "إذا تم تقليص الأزمات الاقتصادية والإنسانية بغزة، فهذا جيد ومطلوب، ولكنني متأكد أن ذلك لن يحدث، وبناء عليه، فنحن نستعد لعملية عسكرية في غزة".
وتحت ضغط عائلات الجنود الأسرى لدى حركة حماس، وعلى هذه الخلفية، اضطر رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو، أخيراً للالتزام العلني بعدم التوصل إلى اتفاق تهدئة، من دون أن يشمل حل ملف الأسرى والمفقودين الإسرائيليين لدى "حماس". ويؤكد هذا الأمر حدوث 
تباينات حادة داخل المؤسسة الحاكمة، إذ يتبيّن أن هناك خلافا جدّيا داخل المؤسسة الأمنية الإسرائيلية، بشأن الشروط الواجب توفرها في مسار التهدئة. وفي الوقت الذي تتحمس هيئة أركان الجيش لإنجاز اتفاق للتهدئة، فإن جهاز المخابرات الداخلية (الشاباك)، يرى عكس ذلك، وفقا ليورام كوهين الرئيس السابق لهذا الجهاز. حيث يرى أن "مصلحة إسرائيل في منح التسهيلات الاقتصادية للغزيين بعد عودة السلطة الفلسطينية إلى حكم غزة، على اعتبار أن تحسين الأوضاع الاقتصادية في ظل وجود حكم (حماس) يرسل برسالة مفادها بأن إسرائيل تخضع فقط للقوة، بحيث إن الطرف الذي يمارس العنف هو الذي يجني المكاسب، بينما الطرف الذي يرفض العنف، ويواصل التعاون الأمني، يجري المس بمكانته".
أخيرا .. وهروبا من منطق "الحل السياسي"، وعلى الضد منه، ولأول مرة في أجواء التصعيد السائدة في غزة، يعلن رئيس وزراء الاحتلال، خياريه المرّين: النجاح في تقليص الأزمات الاقتصادية والإنسانية، وإلا فالاتجاه نحو عملية عسكرية، مهما تكن نتائجها وتخمينه لها، فهي ما لن يكون في مستطاعها أن ترتق الفتق الانقسامي بين طرفي السلطة، بقدر ما قد تكرّس انفصالا وطلاقا سياسيا وجغرافيا بائنين، بين بقايا الوطن الفلسطيني، وما أنتجته اتفاقيتا أوسلو من شروخ في النظام السياسي و"مؤسسته السلطوية" التي باتت تغامر، بل وتقامر بما أنتجته الثورة ونضالات الحركة الوطنية للشعب الفلسطيني، على امتداد كفاحه الوطني المعاصر.
وهذا ما تسعى إلى تحقيقه أطراف "صفقة القرن"، ومن يتواطئ ويعمل على "إنجازها" معهم، مقدّمة لخطوة أخيرة قد توغل في مسار التصفية؛ تصفية القضية الوطنية العامة للشعب الفلسطيني. أما المصالح الفئوية والخاصة؛ الشخصية والنخبوية، فهي شأنٌ لا علاقة له بقضيتنا الوطنية، وليست هي ما يراد الإضرار أو المقامرة بها كونها كذلك: مصالح خاصة سلطوية الطابع لشركاء باعدوا بينهم وبين شعبهم وقضيته الوطنية، مقاربين بينهم وبين مؤسسة احتلالية كولونيالية هندست وتهندس وطن الشعب الفلسطيني، كي يكون وطنا قوميا لمستوطنين غرباء عنصريين يميزون فيما بينهم، ولم يعد تمييزهم يقتصر على الفلسطينيين فقط، بل هناك تكريس لتمايزات وتمييز عميقين بين الإسرائيليين أنفسهم، بموجب ما يسمى "قانون القومية" الذي جرى إقراره منذ وقت قريب.
47584A08-581B-42EA-A993-63CB54048E47
ماجد الشيخ

كاتب وصحفي فلسطيني مقيم في لبنان. مواليد 1954. عمل في الصحافة الكويتية منذ منتصف السبعينات إلى 1986، أقام في قبرص، وعمل مراسلا لصحف عربية. ينشر مقالاته ودراساته في عدة صحف لبنانية وعربية.