عندما تحتفي تونس بمبدعيها في المهجر

عندما تحتفي تونس بمبدعيها في المهجر

13 أكتوبر 2018
+ الخط -
لمّا كان المُبدع يحمِل وطنه في قلبه في مختلف المَهاجر، ويجعل منه نبضَ ما يكتب، وما يرسم، وما ينحت، وما يعزف، وما يُغني، وما يمثل، ويُخرج، كان لا بد لهذا الوطن ألا يقطع الصلة بمبدعيه أينما كانوا، وأن يبني جسور التواصل معهم، حتى يبقى ذاك الرابط المقدّس بينهما حيًا، ونابضا بمفردات العصر والوجود.
وفي سياق هذا الجسر المتعدّد بين تونس ومبدعيها المقيمين خارج جغرافيتهم، يأتي الإعلان عن تأسيس مهرجان "أيام قرطاج الثقافية للإبداع المهجري" تكريسا لخيار أنّ تونس لجميع أبنائها، أينما كانوا، ولجميع الناطقين بهويتها، والمسكونين بهواجسها وأسئلتها، والحاملين أحلامها وآمالها وتوقها إلى أفقٍ إنساني أرحب.
ولمّا كانت تونس للجميع، وقد قطعت مع منطق الإقصاء، فإن هذه الأيام تتنزل في إطار تكريس البعد التشاركي للعمل الثقافي الذي يزداد حضورا وتعميما في هذه الفترة، بدفعٍ من وزارة الثقافة، وبهدف تكريس الحق في الثقافة، ذاك الحق الدستوري لكل فئات المجتمع التونسي داخل الوطن وخارجه. هذا البعد الذي يتجسّد أيضا في إطلاق استراتيجية للثقافة العمالية والمؤسساتية برعاية وزارة الشؤون الاجتماعية.
وجاءت الاتفاقية المشتركة بين الوزارتين، الموقعة في 22 مايو/ أيار، مؤسسة لشراكة تجعل 
من الفعل الثقافي حاضنةً لمهاجري تونس عموما، ولمبدعيها في المهجر خصوصا، حلقة وصل بين الجميع. وقد اجتهدت الهيئة المديرة للمهرجان في اقتراح برنامجٍ يشمل كل الفنون تقريبا من موسيقي وأدب وفنون تشكيلية وتصاميم أزياء وغيرها.
يختلف مهاجر اليوم تماما في تكوينه وأسباب هجرته عن مهاجر الأمس. ولم تعد الهجرة تقتصر على الأبعاد الاقتصادية فقط، بل نحن نشهد اليوم هجرة للكفاءات والأدمغة وذوي المواهب في مختلف مجالات الإبداع. أما في بلدان الإقامة، فقد أصبح للتونسيين جيلان، ثان وثالث من المهاجرين، يفتقدون للأسف إلى الروابط الروحية والوجدانية واللغوية مع بلدهم الأم، ويدفعون ثمن أزمة هوية وانتماء، ممزقين بين انتمائهم الجغرافي وانتمائهم الحضاري والثقافي. وفي غياب مأسسةٍ لفعلٍ ثقافي وطني يتعهدهم، ويقدّم لهم بعض الأجوبة عما يخامرهم من أسئلة وجودية عاصفة، غياب لا يستطيع مبدعونا هناك تحمّل وزره، والتخفيف من مضاعفاته، على الرغم من كل جهودهم الفردية المحمودة والمشكورة. وفي هذا السياق، أصبحت مراكز الشؤون الاجتماعية في الخارج تتحمل عبء وظائف ثقافية ولغوية، فضلا عن وظائفها الاجتماعية المعتادة، لتتحوّل رسميا إلى "مراكز اجتماعية ثقافية".
تلتفت تونس اليوم إلى شريحة مهمة وحيوية من أبنائها (تجاوزت نسبتهم 12% من مجمل السكان) لتحتضنهم وترعاهم، في سياقات جيوسياسية دولية وإقليمية عاصفة، علا فيها الجدل بشأن سؤال الهجرة والمهاجرين، خصوصا بصعود حكومات شعبوية وأحزاب يمينية في كبرى دول الإقامة. وهنا أصبحت قضايا الهوية والانتماء والادماج قضايا سياسية حضارية بامتياز.
يضاف إلى ذلك كله أن الثقافة باتت جزءا فاعلا من القوة الناعمة التي تقدم صورة إيجابية عن بلد ما لدى الشعوب الأخرى. وتونس أحوج ما تكون اليوم لمبدعيها في الخارج، ليكونوا طليعة قوتها الناعمة، تسند فعلها الدبلوماسي، بل تعبد له الطريق، وتفتح أمامه السبل والأبواب المغلقة.
من هنا، فان أيام قرطاج الثقافية للإبداع المهجري تظاهرة لتثمين إبداعات أبناء تونس في الخارج الذين تألقوا في مختلف مجالات الإبداع خارج وطنهم، وهي اعترافٌ بقدراتهم
وإنجازاتهم وإضافاتهم من وطنهم الأم، تحفيزا لهم على مزيد من التألق والإضافة، بما يفتح مجالات واسعة وآفاقا رحبة لكل أبناء الهجرة، وخصوصا الشباب منهم، من أبناء الجيلين، الثاني والثالث. واعتبارا لتنوع مجالات الإبداع، انطلقت فلسفة المهرجان من جملة محاور، شملت مختلف أوجهه. علاوة على العروض الموسيقية والمعارض والأمسيات الشعرية والمطارحات الفكرية والأدبية، سيتيح المهرجان فرصة للحوار المباشر مع رموز من مبدعي الهجرة من كتاب وشعراء ورسامين وإعلاميين. وهو يناقش جملة من القضايا المهمة المتعلقة بالاستثمار في الثقافة، وصورة تونس في أدب المهجر شعرا ونثرا، وفي الإعلام الخارجي كذلك.
تطمح هذه المبادرة إلى تأسيس تظاهرة ثقافية جديدة ذات خصوصية اجتماعية، تعنى بشريحة فاعلة في المجتمع التونسي، وإن كانت إقامتها في المهجر، لكنها مساهمة بوطنية وإخلاص في التنمية الاقتصادية والاجتماعية، بتحويلات واستثمارات مباشرة وغير مباشرة، بلغت في معدّلاتها نسبا متميزة.
وإذ تحتضن مدينة الثقافة هذا الصرح الثقافي والحضاري والمعلم الكبير من معالم تونس التي تؤمن بأن الثقافة هي قاطرة التغيير الاجتماعي وتوطين الديمقراطية، فإن الأمل أن يولد المهرجان كبيرا، على الرغم من كل التحديات، ويتحول إلى تقليد ونافذة وطنية مشرعة على مبدعينا خارج الديار.
35FE487F-4A9A-4B25-8DF9-AF430105714E
35FE487F-4A9A-4B25-8DF9-AF430105714E
محمد أحمد القابسي

كاتب وأكاديمي وشاعر تونسي

محمد أحمد القابسي