أميركا أولاً.. نيكي هيلي أولاً

أميركا أولاً.. نيكي هيلي أولاً

13 أكتوبر 2018

نيكي هيلي في مجلس الأمن.. الانتصار لإسرائيل دائما (17/9/2018/Getty)

+ الخط -
كان تطورا مفاجئا من حيث التوقيت أن تعمد المندوبة الأميركية إلى الأمم المتحدة، نيكي هيلي، إلى الاستقالة الثلاثاء الماضي (9 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري)، فقد كانت التوقعات تشير إلى عزمها مغادرة منصبها مع نهاية العام الجاري (2018)، لكنها سارعت إلى الاستقالة، وفاجأت رئيسها دونالد ترامب، والنخبة الصهيونية المتطرّفة الحاكمة في تل أبيب. وقد عُرفت هيلي (46 عاماً) بهوسها في تأييد الاحتلال الإسرائيلي، وبمناصبة الفلسطينيين العداء، وبغير احتكاكاتٍ سابقةٍ بينها وبين أحد منهم، باستثناء أنها رفضت، في مطلع العام الماضي، باسم إدارة بلادها، ترشيح الأمم المتحدة رئيس الوزراء الفلسطيني الأسبق، سلام فياض، للعمل مبعوثا للمنظمة الدولية في ليبيا، وكانت الحجة الوحيدة (والوجيهة!) للسيدة هيلي أن فياض فلسطيني.
واقع الأمر أن اختيارها منصبها الذي غادرته حديثا جاء في سياق اختيار فريقٍ مفرط في ولائه لتل أبيب، من السفير في تل أبيب، ديفيد فريدمان، إلى المبعوث جيسون غرينبلات، والمستشار جاريد كوشنر، وصولا إلى جون بولتون، علاوة على سعي ترامب إلى إسكات أصوات منتقدة له في صفوف الحزب الجمهوري، وكانت هيلي أحد الأصوات المنتقدة له، في أثناء حملة ترامب لانتخابات الرئاسة.
وقد تعدّدت التفسيرات المتداولة وراء خطوة هيلي الدراماتيكية، (أجملها فيكتور شلهوب في 
تقريره عن الاستقالة في "العربي الجديد" 10 أكتوبر.. )، ومن الواضح أن هذه السيدة الهندية الأصل مفرطة الطموح، فقد عمدت (أو فعلت ذلك عائلتها) إلى تغيير اسمها الهندي نيمراتا رانداوا، وكذلك لتغيير ديانتها (من طائفة السيخ إلى المذهب البروتستانتي). وسرعان ما التحقت بالحزب الجمهوري، موئل التيارات الأشد تعصبا. وعلى الرغم من نفيها إمكانية ترشيح نفسها لانتخابات الرئاسة بعد عامين من الآن، إلا أن هذا النفي لا يعوّل عليه بالضرورة، فما زال هناك متسع من الوقت، قبل أن تكشف عن خططها المستقبلية. وقد منحها موقعها في الأمم المتحدة قدرا كبيرا من النجومية، وبدت كأنها أحد صانعي القرارات العليا، ومع وصول جون بولتون مستشارا للأمن القومي، ومايك بومبيو إلى وزارة الخارجية، فقد ضاقت عليها، كما يبدو، فرص التصدّر، على الرغم من أنها تتمتع بمرتبة وزير، وتشغل عضوية مجلس الأمن القومي الأميركي.
وبخروجها من منصبها الرفيع، تلقى ترامب ما يشبه ضربة قوية، فأقرب المقربين إليه والوجه النسائي الأبرز، يتخلون عنه، وليس الخصوم أو المنافسون فحسب، فلا فرق بين إخراج ريكس تيلرسون من وزارة الخارجية ومغادرة هيلي مقعد بلادها في الأمم المتحدة. وكل منهما، على الفروق بينهما، كان يمثل السياسة الخارجية لترامب، وهي سياسة مضطربة، تقوم على "أميركا أولاً"، وعلى ابتزاز الحلفاء"عليكم أن تدفعوا". وها هي السفيرة إلى الأمم المتحدة تمضي بشعار "أميركا أولاً" إلى: نيكي هيلي أولاً.
ولم يكن مستغرباً أن يثير قرارها بالمغادرة شعوراً بالصدمة، ولكن ليس في بلادها، أو في أوساط الحزب الجمهوري، أو الكونغرس، بل في تل أبيب، حيث كانت هيلي تمثل مصالح الاحتلال الإسرائيلي، وتتبنّى حرفياً خطاب الاحتلال، وتزايد عليه، وما كانت تل أبيب بحاجة حقا إلى مندوبٍ لها في المنظمة الدولية، مع وجود هيلي التي لم تكن تتوانى عن استخدام أسلوب سوقي، للتعبير عن هوسها بتمثيل الاحتلال، وترديد روايته بكل شيء، يتعلق بالصراع مع الفلسطينيين أصحاب الأرض. وقد تسابق زعماء تل أبيب في إبداء الحسرة على قرار خروجها، حتى أن الجيش الإسرائيلي وجّه التحية لها على موقعه الإلكتروني، فقد كانت إسرائيلية أكثر من الإسرائيليين، جرياً على نهجها في مبتدأ مسيرتها السياسية بأن تكون، وهي سليلة عائلة مهاجرة، أميركيةً أكثر من الأميركيين. وأن توصف بأنها أكثر إسرائيلية من الإسرائيليين جاء هذا الوصف من الكاتب الإسرائيلي، جدعون ليفي، المعروف بمواقفه النقدية، وقد نعتها إلى ذلك بأنها جاهلة وأنه تم غسل دماغها، ولا تعرف منطقة الشرق الأوسط، ولا تدرك ماذا يحدث فيها. (هآرتس، 2 إبريل/ نيسان 2017).
كانت مجمل المواقف التي تعبر عنها تقوم على أنه محظور انتقاد إسرائيل، أو إدانتها بشيء، وأنها تقف مع إسرائيل ضد الأمم المتحدة وأعضائها! وهو موقفٌ سوقيٌّ وصبيانيٌّ، يمكن أن يجهر به أحد المتخصصين المتفرغين لإطلاق الهتافات في الاجتماعات السياسية العامة، ولا يعبّر عنه سياسي مسؤول. وليس السفير في تل أبيب، فريدمان، على سبيل المثال، أقلّ سوءا، غير أن هيلي تميزت بأسلوبها الذكوري الفج، للتعبير عن مواقف إدارة ترامب في سعي هذه الإدارة إلى تصفية القضية الفلسطينية، ومنح المحتلين مكافآتٍ تفوق ما يطلبه هؤلاء. وهو ما يعكس الانحدار الأخلاقي، لا السياسي فقط، لهذه الإدارة التي تتعامل بمنطق البزنس الرخيص (منطق تجار السوق السوداء)، وباعتبار الفلسطينيين أصحاب "دكاكين" خاسرة، ينبغي عدم الشراء منهم، ويتعين إغلاق هذه "الدكاكين".
وبالفعل، تزامن خروج هيلي من الأمم المتحدة مع إغلاق سفارة فلسطين في واشنطن، ولغير ما سبب، فلم تنتهك هذه السفارة قواعد عمل البعثات الدبلوماسية، ولم تقم دولة فلسطين بالاعتداء 
على الدولة الأميركية، ولا قامت مثلا بأعمال تجسس ضد أميركا.. وكل ما في الأمر أن ترامب يريد أن يهيئ لصفقته، باستضعاف الطرف الفلسطيني، وشنّ حربٍ سياسية ومالية ودبلوماسية عليه، والطرف الفلسطيني هنا ليس السلطة فحسب، بل مجمل شعب فلسطين (الحرب المشينة على وكالة الغوث "أونروا"). وهو ما كانت تتبنّاه هيلي بنزق شديد، وفجور دبلوماسي معلن. وبهذه الطريقة يمكن، بحسب منظور ترامب وأركان إدارته، تمرير الصفقة، وسوف يكتشف البيت الأبيض أن زعماء تل أبيب، على الرغم من كل الانحناء الأميركي لهم سوف يتحفظون على الصفقة، ما إن يتم الإعلان عنها، إذ لديهم ما يكفي من عنصرية ومن أخلاق السوق (مساومات البيع والشراء وعقد الصفقات) لرفض عطايا الحلفاء.
وسوف تتواصل، في الأثناء، السياسة التجريبية المتخبطة لإدارة ترامب، مع تغير سريع في الوجوه ومع المندوبة الجديدة المتوقعة، دينا باول، فيما تنصرف نيكي هيلي إلى بناء مستقبلها، والتنافس مع الرئيس الحالي لخطب ود الجمهوريين، وإثارة سجالاتٍ بشأن أنجع السبل لمناصبة العداء للعالم، وتطبيق شعار أميركا أولاً، باعتبار الأمرين متلازمين.