لماذا يكرهون بغداد؟

لماذا يكرهون بغداد؟

02 أكتوبر 2018

مشهد من بغداد في العام 1829 (Getty)

+ الخط -
وبغداد هنا ليست التي تعرفها اليوم، وإنما التي كانت، يوم أن حكمت الدنيا، وكان هارونها يخاطب الغيمة "أمطري حيث شئتِ فخراجك عائد لي".. إنها بغداد عاصمة العالم التي اقترن اسمها باسم الخليفة العباسي هارون الرشيد، الخليفة الذي حكم فعدل، واؤتمن فصان وعاهد فأوفى. ليست بغداد اليوم التي شاعت فيها الجريمة والقتل، وساد فيها قانون الغاب، وتحوّل الوضيع فيها إلى سيد، والقاتل إلى حاكم، وتغرّبت المدينة، بعد أن شن الغزاة الجدد حرباً على أهلها وسكانها الذين لم يكن لهم من بغدادهم إلا ذاك الموروث الذي يتفاخرون به، فجاءت أقوامٌ أخرى لا ترى في بغداد سوى أنها مدينة هارون قاتل آل البيت.
للأسف، ذلك ما آلت إليه بغداد الرشيد، بعد 15 عاماً من التغيير والغزو والاحتلالين، الأميركي والإيراني، حتى وصل الأمر إلى أن خرج أحد أعضاء البرلمان العراقي الجديد، عمار طعمة، على الشاشات، وفي أثناء جلسة علنية للبرلمان، ليقول إن الرشيد قاتل (!).
نعم، تحول الرشيد إلى قاتل في نظر هؤلاء الذين يريدون لبغداد أن تغير جلدها، وأن لا يقترن اسمها باسم صانع أمجادها الذي جعل منها قِبلة للعالم، ومقصداً لعلمائه، وملجأ لكل عارف.
بعد الغزو الأميركي للعراق، استبيحت بغداد، تماماً كما فعل غُزاتها الذين نقرأ عنهم في بطون كتب التأريخ، فكان أن قتل العلماء والأستاذة والأطباء والضباط، بل امتد الأمر إلى تدمير شواخص حضارية وفنية، كانت تحتفل ببغداد وتاريخها المجيد، فكان أن هوى رأس المنصور بفعل عبوة ناسفة، وهو الذي كان يقف شامخا في المنطقة التي سمّيت باسمه وسط بغداد، المنصور.
لا يمكن لك أن تتحدّث عن بغداد من دون أن تردفها بالرشيد والمنصور والمأمون، لا يمكن لك أن تجل بغداد المدينة، من دون أن تجلّ هذه الأسماء، فهي بهم كانت، وبهم سادت، وحكمت العالم، ونشرت الضياء للإنسانية جمعاء. وأن يهاجم شخص ما الخليفة العباسي هارون الرشيد، ويعتقد أنه خليفة قاتل، لأنه قتل أحد المنتمين لآل البيت، كما يدّعي، فذاك جاهل يحتاج إلى أن يتعلم، أما أن تصدر مثل هذه الفرية من نائبٍ في البرلمان العراقي في جلسةٍ منقولة على
الهواء، يشاهدها ملايين العراقيين، فتلك طامّة كبرى، ومصيبة عظمى، تستدعي الوقوف عندها، وتفنيد تلك الأكاذيب، والرد عليها بما تستحق، ليس لأنه جاهل لا يعرف التاريخ وحسب، وإنما لأن كلامه سيتحول إلى أداة بغض وكره اجتماعي من شريحةٍ واسعةٍ من العراقيين.
بغداد الرشيد، كما عرفها العالم، صاحبة تاريخ طويل يمتد فضله على الإنسانية، فهي المدينة التي كانت تُدرس مختلف العلوم للوافدين، والتي كانت تمنح الأعطيات لطلاب العلم ليتفرّغوا لدراستهم، من دون تمييز أو تفرقة، وهي المدينة التي كانت تماثل اليوم نيويورك وباريس وبرلين مجتمعة، كما يصفها المؤرخون والمطلعون على تاريخها، فكانت حاضرة الدنيا، وهي التي قال فيها الفيلسوف العراقي الأستاذ في جامعة هارفارد، محسن مهدي، "لم تشتهر مدينة في التراث الإنساني الأممي، كما اشتهرت بغداد، وارتبط اسمها للأبد باسمي ألف ليلة وليلة وهارون الرشيد، وباتا علامة حضارية كبرى في كل أرجاء المعمورة"، فلماذا يكرهها بعض ساسة العراق اليوم، ويكرهون رشيدها؟
تعود القصة ببساطة إلى التاريخ، فالتاريخ الذي نعرفه عن بغداد يختلف عن الذي يعرفه هؤلاء، فنحن نقرأ عن بغداد والرشيد؛ في "البداية والنهاية" لابن كثير، ونقرأ تاريخ بغداد لابن الخطيب البغدادي، بينما يقرأ الآخرون تاريخ بغداد في كتب الشعوبيين، في كتب الذين شوّهوا صورة بغداد، وشوّهوا صورة الرشيد، لا لشيء سوى لأنه كان صاحب "نكبة البرامكة" التي أبعدت الفرس عن النفوذ والتغلغل في مفاصل الدولة، وأفسدت خططهم في نقل عاصمة الخلافة إلى خراسان، فكان أن شحذوا أقلامهم ليهدموا مجد بغداد، ويصادروا صورتها البهية، فتطاولوا على أعدل خلفاء بني العباس، الخليفة هارون الرشيد، ووسموه بالعهر والمجون، وهو الذي كان يحجّ عاماً ويغزو في سبيل الله عاماً آخر.
نعم هذه هي الحقيقة، أن هؤلاء الذين يستنكفون من بغداد وتاريخ بني العباس ومآثر خلفائها، الرشيد والمنصور، تربّوا على كره كل ما هو بغدادي أصيل، وشربوا من ينابيع حقد آسنة، واعتاشوا على أكاذيب خارقة، دبّجتها أقلام فُرسٍ بقيت لديهم نزعة القومية الشوفينية أقوى من نزعة إسلامهم الظاهري.
استنكف وزير خارجية العراق، إبراهيم الجعفري، في كلمته أمام الجمعية العمومية للأمم المتحدة، أن يقرن بغداد بهارون الرشيد، وبدلاً من ذلك جدّف بعيداً وراح يتحدث عن سرجون الأكدى الذي قال إنه وصف بغداد بانها قُبّة العالم، ليتحول كلامه إلى مادةٍ ساخرة على مواقع التواصل، فهذا الذي يفترض أنه يمثل العراق ويعرف تاريخه، فاته أن سرجون مات قبل بناء المنصور بغداد المنصور بأكثر من ثلاثة آلاف عام.
ستبقى بغداد الرشيد، لن تغيرها موجة طارئة من سياسيي المصادفة، ممن تشرّبوا كرهها وكره خلفائها، فالتاريخ عصيٌّ على التغيير وفقاً لرغبات هذا الطرف أو ذاك وأهوائهما، وإلا ماذا يبقى للعراقي إذا جرّدته من بغداد والرشيد والمنصور وبيت الحكمة؟
لا يعيش العراق الذي صنعته أميركا وإيران صراعاً مع حاضره ومستقبله وحسب، وإنما يعيش صراعاً حتى مع تاريخه، هكذا أراد له محتلوه أن يكون، وما يجري اليوم من محاولة تغيير تاريخ بغداد والعراق يمثل مرحلة أخرى من مراحل الحرب على الهوية، لتكريس الانقسام والتجزئة بين أبناء البلد الواحد.
96648A48-5D02-47EA-B995-281002868FD0
إياد الدليمي
كاتب وصحافي عراقي. حاصل على شهادة الماجستير في الأدب العربي الحديث. له عدة قصص قصيرة منشورة في مجلات أدبية عربية. وهو كاتب مقال أسبوعي في عدة صحف ومواقع عربية. يقول: أكتب لأنني أؤمن بالكتابة. أؤمن بأن طريق التغيير يبدأ بكلمة، وأن السعادة كلمة، وأن الحياة كلمة...