الثروة في المغرب.. التقارير والواقع

الثروة في المغرب.. التقارير والواقع

09 يناير 2018
+ الخط -
تعرّف المغاربة، أخيرا، على حجم الثروة في بلادهم، من التقرير الذي أصدره المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي ومؤسسة بنك المغرب، "الثروة الإجمالية للمغرب ما بين 1999 و2013؛ الرأسمال غير المادي: عامل لخلق الثروة الوطنية وتوزيعها المنصف". وكذا الدراسة التي أعدتها المندوبية السامية للتخطيط؛ أعلى هيئة رسمية مختصة في الإحصاء، حول الموضوع نفسه أخيرا، تحت عنوان "خلق الثروة في المغرب وتوزيعها 2001-2015).
وهذا كله بغية تقديم إجابة مفصلة عن سؤال "أين الثروة؟" الذي طرحه عاهل البلاد في خطاب العرش قبل ثلاث سنوات. وذلك من خلال تفكيك النموذج التنموي المغربي الذي أضحى عاجزا عن تحقيق العدالة الاجتماعية، وبات غير قادر على الاستجابة للمطالب الملحة، والحاجيات المتزايدة للمواطنين، كما جاء على لسان أعلى سلطة في البلاد، عند افتتاح الدورة التشريعية أخيرا.
تركّز تقرير المجلس الذي اعتُبر بمثابة "وقفة تأملية مع الذات" على الثروة الإجمالية للبلد، خلال 14 سنة من فترة حكم محمد السادس؛ على رصد الثروة الوطنية وقياسها، وتحليل مكوناتها ومحدّداتها. وبتعبير أدق، على كيفيات إنتاج الثروة الوطنية في المغرب، وطرق توزيعها. وعمل، في الشق الثاني، على بلورة معالم كبرى يرسم بواسطتها خريطة طريق، من أجل صعود مجتمعي منصف. تفاعلا مع الدعوة التي أطلقتها المؤسسة الملكية لكل من الحكومة والبرلمان، ومختلف المؤسسات والهيئات المعنية، كل في مجال اختصاصه، بغية إعادة النظر في النموذج التنموي، كي يستطيع مواكبة التطورات التي تعرفها البلاد.
تبين من التقييم المنجز أن قيمة الثروة الإجمالية للمغرب تجاوزت الضعف في الفترة التي غطَّتها الدراسة، حيث انتقلت من 5904 إلى 12833 مليار درهم، وذلك بما يعادل زيادة تصل إلى 5% في المتوسط. وانتقل الاقتصاد الوطني إلى عتبة جديدة من النمو؛ 4.6% الآن مقابل 3% خلال عقد التسعينيات. بالموازاة مع ذلك، تقلصت نسبة الفقر من 15.3% إلى 4.2%، وانخفضت نسبة الأمية 16 درجة، إذ انتقلت من 48% إلى 32%.

وتؤكد الأرقام الواردة في دراسة مندوبية التخطيط على أن نصيب الفرد من الناتج الداخلي الإجمالي نما بنسبة 3.2% سنويا، في الفترة المرجعية للبحث. ويُعزى هذا التحسّن أساسا إلى زيادة إنتاجية العمل التي بلغت مساهمتها نسبة 92.5%، بزيادة إنتاجية يقدر معدّلها السنوي بـ2.9%. يليه في ذلك التأثير الديمغرافي؛ أي نسبة السكان في سن العمل إلى مجموع السكان، والتي بلغت مساهمة تأثيرها 19.8%.
تكشف لغة الأرقام والنسب، في بعض الأحيان، جانبا من الحقيقة، فزيادة الثروة وتحسّن معدل النمو وارتفاع المؤشرات... وما إلى ذلك، ليست دلائل يمكن الركون إليها للقول إن المسار العام للبلاد جيد، وإن الوضع الداخلي بخير، ويشجع على الاطمئنان، كما توحي بذلك تلك الأرقام. ولنا أكثر من قرينة، في التقرير كما في الدراسة، على أن معطيات الجانب الآخر من الصورة في المغرب ليست جيدة، إن لم تكن مخيفة، وأن البلاد بحاجة لتدخل هيكلي عاجل، فالوضع لم تعد تنفع معه سياسة المسكّنات التي تتبعها الدولة منذ عقود. وهنا بعض منها للتمثيل، لا الحصر:
أولا: أليست الفترة التي تضاعفت فيها ثروة البلاد (1999 ـ 2015) هي نفسها التي شهدت إطلاق "نموذج تنموي مغربي"، كان الرهان منعقدا عليه، لنقل البلاد إلى مصاف الدول ذات الاقتصاد الصاعد. قبل أن يأتي الإقرار من أعلى سلطةٍ في البلاد بفشل هذا النموذج في تحقيق الأهداف، على الرغم من كم الوسائل وحجم الإمكانات التي رصدت له.
ثانيا: ألم تشرع السلطة مكرهةً في مسلسل إصلاحات سياسية واقتصادية واجتماعية إبّان أحداث الربيع العربي، مقدّمة نفسها نموذجا يصنع الاستثناء عربيا؛ بشعار "الإصلاح في ظل الاستقرار". لكن سرعان ما اتضح أن أثر ذلك محدود، بعد تنامي المد الاحتجاجي الشعبي غير المسيّس، واتساع حجم المساءلة الاجتماعية للدولة، في مناطق عديدة في المغرب غير النافع (الريف، خنيفرة، زاكورة، جرادة..)، بعد مرور خمس سنوات على إقرار هذه الإصلاحات.
ثالثا: قد تتمكن البلاد من مضاعفة الثروة الإجمالية في هذه الفترة الوجيزة (حوالي عقد ونصف). لكن أكثر من ثلثيها، تحديدا 73% من هذه الثروة التي تضاعفت، ثروة غير مادية؛ أي تقييم نسبي للرأسمال البشري والاجتماعي والمؤسساتي والثقافي، ما يمكن أن يكون له ثمن، فيما تبقى قيمته بلا ثمن. وتبقى نسبة 27% فقط منها، ما يمثل الثروة المادية التي يمكن لمسها.
رابعا: إنتاج الثروة وحتى مضاعفتها لا يضمن أبدا التوزيع العادل لها، فبحسب التقرير يعرف توزيع هذه الثروة اختلالا كبيرا، حيث يستهلك 10% من الأغنياء أكثر من 33% من خيرات البلاد؛ أي أن هناك وفرة نسبية في إنتاج الثروة، وفقرا مدقعا في التوزيع. ما يعني أن ثمار النمو لا تصل إلى كل بيوت المغاربة، بل يزداد الغني غنىً والفقير يزداد فقرا.
خامسا: تكشف دراسة المندوبية عن المساهمة السلبية لتأثير الشغل، فالهياكل الاقتصادية لم تسمح بتثمين المؤهلات التي يتيحها التأثير الديمغرافي. إذ انخفض إيجاد فرص الشغل على
مستوى الاقتصاد الوطني، من 186 ألف وظيفة في المتوسط سنويا بين 2001 و2008، إلى 70 ألف وظيفة في المتوسط سنويا ما بين 2008 و2015.
سادسا: يفترض أن يكون لمضاعفة الثروة في البلاد وقع على مختلف القطاعات، وهو ما لم يتحقق. فقطاع التربية والتعليم مثلا ما يزال يسجل معدلات هدر مدرسي مقلقة في جميع المستويات الدراسية، حيث عرف، بين 1999 و2012، في المتوسط كل سنة، ما يناهز 400 ألف حالة هدر، في جميع المستويات. تضاف إلى متوسط سنوي يتجاوز 760 ألف حالة تكرار، أعلى مرتين تقريبا من المتوسط العالمي.
سابعا: لا تزال سيولة المجتمع المغربي جد متدنية، ما يعني أن تغيير الأوضاع الاجتماعية يحدث بين فئات متقاربة. فحوالي 83% من الذين يحققون حركيةً داخل المجتمع يبلغون، في أقصى الحالات، موقعين اثنين أعلى مباشرة من مواقع آبائهم.
تعج التقارير والمستندات الصادرة عن المؤسسات العمومية الرسمية، التي تبقى مؤطرة بخطوط حمراء لا يمكنها تجاوزها، بالقرائن التي تفيد بأن الوضع الداخلي في المغرب ليس مطابقا تماما للصورة التي تسوّق عنه في الخارج. لكن صناع القرار داخل المملكة يفضلون دائما النظر إلى النصف المملوء من الكأس التي تجعلهم يقتنعون بأن الأمور تجري وفق تدبيرهم، حتى وإن كان الواقع المغربي، من حين إلى آخر، ينبئهم بخلاف ذلك.
E5D36E63-7686-438C-8E11-321C2217A9C8
E5D36E63-7686-438C-8E11-321C2217A9C8
محمد طيفوري

كاتب وباحث مغربي في كلية الحقوق في جامعة محمد الخامس في الرباط. عضو مؤسس ومشارك في مراكز بحثية عربية. مؤلف كتاب "عبد الوهاب المسيري وتفكيك الصهيونية" و "أعلام في الذاكرة: ديوان الحرية وإيوان الكرامة". نشر دراسات في مجلات عربية محكمة.

محمد طيفوري