أزمنة المخابرات المصرية

أزمنة المخابرات المصرية

08 يناير 2018

(Getty)

+ الخط -
لم نعد نحن، المشتغلين في تسقّط الأخبار ونشرها، نُصادف أخباراً عن جواسيس لإسرائيل تقبض عليهم الأجهزة المصرية المختصة. منذ خمس سنوات ربما، لم يحدث شيءٌ من هذا، على غير "الوتيرة" التي كان عليها الحال في زمن حسني مبارك. كانت مصر الرسمية تذيع، كل عام تقريبا، عن القبض على اثنين أو ثلاثة ينجح جهاز المخابرات المصرية في إسقاطهم معترفين بتجنيد "الموساد" لهم، وتنشر تفاصيل عن لقاءات في الهند وتايلاند وفرنسا وغيرها (ومصر أحيانا) بينهم وبين مشغليهم. وليست منسيةً حكاية مدرب الكونغ فو، طارق عبد الرازق، الذي قبض عليه في العام 2010، وكان مكلفاً بتزويد المخابرات الإسرائيلية بمعلوماتٍ عن منشآت صناعية في مصر. أما المهندس محمد سيد صابر، فقصته التي ذاعت في 2007 أشاعت تقديرا مضاعفا للمخابرات المصرية تستحقّه، إذ التقطت هذا الشخص الذي أرادت منه إسرائيل معلوماتٍ سريةً من هيئة الطاقة الذرية المصرية التي كان يعمل فيها. وفي الأرشيف القريب في سنوات مبارك، قُبض على غير هذين الجاسوسين. أما في زمنٍ أبعد، فثمّة "الدكتور عصفور"، وهذا هو اسم عملية التجسّس على السفارة الأميركية في القاهرة، لما تمكّنت المخابرات المصرية، بعون من ألمانيا الشرقية، من زرع أربع ميكروفونات تنصّت في مقر السفارة، في 1968، ثم نزعها أنور السادات بعد عامين من توليه الرئاسة. وقد نُشر، والله أعلم، أن الدولة المصرية وقعت، في تلك الأثناء، على "تدبيرٍ ما" كانت تخطط له الولايات المتحدة، في حينه، لإنهاء حياة جمال عبد الناصر. وليس مستبعدا أنها صحيحةٌ حكايةُ إصدار الرئيس أنور السادات أمره بتنفيذ حكمٍ بإعدام جاسوسةٍ مصرية، بعد دقائق فقط من سماعه من وزير الخارجية الأميركية، هنري كيسنجر، طلبا بتلبية رغبة رئيس حكومة إسرائيل، غولدا مائير، تخفيف الحكم على تلك الجاسوسة. 

ليس في وسع صاحب هذه الكلمات أن يحسم ما إذا كان صحيحا كلام محمد حسنين هيكل إن مصر لم تزرع أي جاسوسٍ لها في إسرائيل، وأن كل القصص عن أشخاصٍ لها كانوا هناك هي من خيال كتّابها للسينما والتلفزيون (منهم رأفت الهجان). غير أن في الوسع أن يحسم الواحد منا، وبيسرٍ، أن المخابرات المصرية استطاعت، بكفاءةٍ مهنيةٍ عالية، كشف جواسيس خطيرين لإسرائيل في أزمنة عبد الناصر والسادات ومبارك، وأن السينما المصرية (فيلم الصعود إلى الهاوية مثلا) لم تصنع بطولات للمخابرات المصرية في هذا الأمر، وإنما صنعت تفاصيل التشويق لبضاعة السينما نفسها. ولذلك، لنقل ما نشاء عن رداءات الحكم في عهود الرؤساء الثلاثة. ولنقل ما نريد، وعن حقّ غالبا، عن شناعاتٍ وفظاعاتٍ (وبذاءاتٍ أيضا) اقترفتها المخابرات المصرية في التعامل مع معارضين من كل الألوان، الشيوعية والإخوانية وغيرهما، إلا أن هذا كله لا يعني، في أي حال، نفي وطنيّة جهاز المخابرات المصرية، بشأن عملها من أجل حماية الأمن القومي لمصر، وخصوصا من أخطار إسرائيل الموقّع معها معاهدة سلام منذ أربعين عاما. وليس مستبعدا، والله أعلم، أن يكون صحيحا ما نشر إبّان توقيع تلك المعاهدة المشؤومة أن السادات وافق على طلب مناحيم بيغن كشفا متبادلا عن أسماء جواسيس الطرفين في إسرائيل ومصر، ثم طلب من المخابرات المصرية ذلك، غير أنها رفضت الاستجابة لأمره هذا.
مناسبة هذا التجوال، الموجز، في بعض أرشيف المخابرات المصرية، المبذول في الجرائد والشاشات، الخبر الذي لم تكن "نيويورك تايمز" تمزح عندما نشرته، أول من أمس، عن اتصالاتٍ أجراها ضابط مخابرات مصرية (برتبة نقيب) مع ثلاثة إعلاميين، ومع الممثلة يسرا، من أجل أن يعمل أربعتهم على ترويج رام الله عاصمة للفلسطينيين، و"إقناع" المصريين بأنه لا فرق بين القدس ورام الله. لم يُبادر هذا الضابط إلى هذا الفعل متطوّعا، وإنما كان يؤدّي نشاطا، صارت تزاوله المخابرات المصرية بهمّةٍ في زمن عبد الفتاح السيسي، في إشاعة التفاهات وثرثرات الكلام الفاضي وافتعال الحكايات العابرة وتشويش مدارك الناس وتسخيف اهتماماتهم الوطنية. هذا هو الغرض، وليس القول إن الدولة المصرية تعترف بالقدس عاصمة لإسرائيل. ولكن، أيُّ مستوىً هابطٍ هذا الذي بلغته المخابرات المصرية، وهي تنحدر إلى هذا الأداء، عندما تظن أن المصريين سيكترثون بما يقوله مفيد فوزي عن القدس (وغيرها)؟ ومع ذلك، أحسنت في اختيار يسرا، وليس إلهام شاهين مثلا.
معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.