عن المجتمع المدني المسيحي في مصر

عن المجتمع المدني المسيحي في مصر

07 يناير 2018

مصريون مسيحيون في صلاة قرب القاهرة (9/4/2017/Getty)

+ الخط -
تحاول هذه المقالة تقديم عرض لما شهدته مصر منذ مطلع 2011، أي منذ ثورة تطوّرت تاليا إلى انتخابات وانقلابات، وشكل المجتمع المدني المسيحي، في الأثناء، الركيزة الجماهيرية لتحالف الثورة العنيفة ضد السلطة ومظاهرات كثيرة قوية، وبدأ الصراع الثوري المبكر بالتحرّك أولًا داخل الكنيسة، وكأنما أراد الضغط على نظام الكنسية أولًا للدفاع عنه، والإتيان له بحقوقه، فقد جاءت مظاهرات المجتمع المدني المسيحي بمثابة خروج على نظام الدولةِ والكنيسةِ معًا. فما أسباب تراجع (وانحسار) استقلال المدنيين المسيحيين بقرارتهم السياسية التي صاحبت ثورة 2011، بعيدًا عن وصاية القيادة الكنسية، والعودة مجددًا طلبًا لدور كانوا قد تمرّدوا عليه؟
في عرض بعض تطورات صراع المجتمع المدني، وصولًا إلى تطور مفهوم المواطنة، من حيث مضامينه وعناصره، تبعًا للتحولات الاجتماعية والتاريخية ضمن حركيةٍ تقوم على تطور العلاقات والحاجات والحقوق والالتزامات، حيث تجاوزت دلالاته الأبعاد السياسية والقانونية، مع بروز أزمة الدولة القومية التي شكلت أساس الفكر الليبرالي سنوات عديدة. حيث تعود جذور المواطنة في المجتمع المدني التي توازي المواطنة في الدولة، وهو المعنى نفسه (تقريبًا) الذي ساد تصور الفلاسفة الإغريق لمدنهم الفاضلة، فأفلاطون وأرسطو صاغا تصورين مختلفين لحياة مجتمع مدني- سياسي، تتداخل فيه حقوق المدنية بحقوق المواطنة السياسية، فمفهوم دولة المدينة يعبر بدقة عن هذا التداخل بين المفهومين الذي تأثر به إلى حد ما أصحاب فلسفة العقد الاجتماعي ومنظرّو الفكر السياسي الأوروبي الكلاسيكي.
ويعتقد بعضهم أنه لا توجد فواصل بين مفهومي المجتمع المدني والدولة، والحقيقة أن هذا الوضع ميز الفكر السياسي الأوروبي التقليدي حتى منتصف القرن الثامن عشر، فالدولة والمجتمع المدني ما هما إلا نمط واحد من الهيئة السياسية، يخضع له المواطنون في إطار سيادة مجموعة من القواعد والقوانين الخاصة به، وذلك ضمانًا للنظام والأمن. وربما تكون 
حالة مسيحيي مصر نموذجًا لذلك، باعتبار المواطنة حقًّا وواجبًا تتعايش عبرها الخصوصيات الحضارية والثقافية. ويتقوّى الشعور بالمواطنة داخل المجتمعات الديمقراطية التي تترسّخ فيها قيم العدالة والحرية والمساواة، وهي لا تتأتّى مع الاستبداد الذي يلغي حقوق المواطنة، ولا يعترف غالبًا إلا بالواجبات، حيث تتحوّل معه المواطنة إلى نوعٍ من العبودية. هنا حاولت قوى سياسية واجتماعية مصرية، مرات، أن تنجز تجربة متكاملة للمواطنة، وتعلمت هذه النخب مما حدث في مصر من وضع استبدادي تحول إلى آخر ديمقراطي، وبعملية تدريجية ووسيلة للوصول إلى الديمقراطية. ولم تكن ثورة 2011 أول ثورة مصرية تثير قضية الديمقراطية، ولن تكون الأخيرة. وهي جاءت بقياداتٍ جديدة متمايزة، فعلى عكس القيادات القديمة التي جاء معظمها من التنظيم الطليعي في العهد الناصري، ما جرى يمثل قطيعة مع هذا المصدر، فقد ظهرت قيادات سياسية إسلامية، وقيادات المعارضة القديمة، ووجوه عائدة من الخارج. وظهرت قيادة كنسية جديدة. شهدت مصر انتخاباتٍ وانقلابات، شكلت الكتلة المدنية المسيحية الركيزة الجماهيرية لتحالف الثورة العنيفة ضد السلطة وعدد كبير في المظاهرات القوية.
وسط كل ما سبق ظهرت المواطنة، وتفيد دراسات كثيرة بأن الوطن الذي لا يستوعب مكوناته الاجتماعية بمختلف تجلياتها (الثقافية والعرقية والإثنية والدينية) ولا يدعم حقوق الأفراد في إطار من الأمن والاستقرار الذي يحميه وجود تعاقد بين الفرد والدولة يؤدي إلى اختلالاتٍ تقتل روح المواطنة وتربكها. ولم تكن مصر تثير قضية المواطنة، فقد حاولت قوى سياسية واجتماعية مصرية، في أكثر من مرة، أن تنجز تجربة متكاملة للمواطنة، وتعلموا مما حدث في مصر من وضع استبدادي تحول إلى آخر ديمقراطي، وبعمليةٍ تدريجية، ووسيلة للوصول إلى الديمقراطية، خصوصا مع شريك أساسي في مصر وهو الوجود المسيحيي الذي يعتبر أصيلًا، فهم من أبناء أصحاب البلاد الأصليين منذ تحول مصر إلى دولة مسيحية اعتبارًا من العام 55 م، وحتى دخول الفتح الإسلامي لمصر عام 642 م. حيث تعايش المسيحيون مع المسلمين تحت حكم واحد وظروف مشتركة، استمر حتى دخول مصر ضمن الخلافة العثمانية عام 1517م. وتمتع الأقباط بصفة عامة بحقوق المواطنة، ووصلوا إلى منصب رئيس الوزراء (بطرس غالي باشا).
وسط ذلك كله جاء مفهوم المواطنة، كعادة المفاهيم السياسية التي تحظى بجانب كبير من اهتمام الباحثين والدارسين، خصوصا في مجال النظرية السياسية وعلم بناء المفاهيم، وإن كان له من حداثةِ في الظهور فى حقل السياسيةِ، لنصبح أمام مجموعة من المراحل المتميزة تبدأ بزوال النظم السلطوية، يتبعها ظهور ديمقراطيات حديثة تسعى إلى ترسيخ نظمها، وتعكس هذه العملية إعادة توزيع القوة، بحيث يتضاءل نصيب الدولة منها لصالح مؤسسات المجتمع المدني.
لقد أضرّ تدخّل الكنيسة في السياسة في مصر أخيرا بالكنيسة والمسيحيين في البلاد على حدّ سواء. كانت الكنيسة، على مدى عقود، وثيقة الصلة بالنظام، وبمثابة الصوت السياسي الوحيد للطائفة القبطية المصرية التي تشكّل أكبر أقلية دينية في البلاد، غير أن ذلك الصوت تشتّت عقب إطاحة حسني مبارك، حيث بدأ الأقباط بالانخراط في ميدان السياسة بأنفسهم.
وفي محاولة لتقديم حل حول المواطنة في إطار الدولة، بالاستناد إلى نتائج الاجتهاد السياسي 
المعاصر، لبلوغ المساواة الحقيقية، كما تقدّمها الأنظمة السياسية الحديثة. نجد أنفسنا بحاجةٍ إلى أفكار تتجاوز الحدود الاجتهادية القديمة، القائمة على خيار وحيد، وهو إقامة صيغة جديدة لدولة معاصرة. حيث كانت تجربة الدولة الغربية التعاقدية تبدو ناجحةً في إطار المواطنة وحفظ النظام بالتراضي. وتأتي هنا مسألة المجتمع، والتنوعات الدينية التي ولّدت في الفكر الحديث مشكلةً وتحديًا، وخصوصًا فيما يخص المواطنة. الوضع الحقوقي للمواطن المسيحي المصري، هل هو مواطن أم غير مواطن؟ وإذا كان كذلك، هل يتمتع بالحقوق نفسها التي تستحق لكل مواطن مصري؟
نعم في المجتمع المدني المعاصر، وكمبدأ أساسي وأصيل للمواطنة، لا بد من علاج عقدة أبناء الأقلية المضطهدة، وأحيانًا المنبوذة، وإشراكهم في التحرّكات والأنشطة، واستدعائهم للتأكيد على ثنائية الهوية الوطنية للبلاد، وإفساح المجال لهم أكثر من أي وقت للتعبير عن أنفسهم وعن اختلافهم. وذلك كله نحو محاولة الوصول إلى طرق صحيحة للحماية من الوقوع في فخ الطائفية والمذهبية، عن طريق تفعيل المواطنة، بفتح حوار حر وحضاري إسلامي مسيحي في كل العالم العربي والإسلامي، ومع أن ذلك حقيقة لضرورة تُمليها وحدة المستقبل والمصير، بكل أبعادها، تلك هي مسؤولية مسيحية إسلامية.
إذا اعتبرنا أن المواطنة الحقيقية تحمي المطالبة المشروعة بتجريم أعمال المجموعات والأفراد وأفعالهم، حين يتورّطون فى العنف، أو التحريض عليه، أو في مناهضةِ قيمِ العدلِ والحريةِ والمساواةِ، وصولًا إلى عدم التعارض أبدًا مع الدفاع عن حقوق كل المصريين وحرياتهم، بغض النظر عن اختلافات المنطلقات والمواقف، ولا يبرّر هذا الخوف من نتائج الديمقراطية. وهنا السؤال: ما هي أسباب نجاح نظام الكنيسة في استعادة هذا الدور الذي تراجع بشكل لافت، عقب ثورة يناير مباشرة؟ وما هو مستقبل علاقة المجتمع المدني المسيحي بالكنيسة والوطن؟ وهل ما فعله المجتمع المدني المسيحي من دعم للثورة المضادّة 2013 يختلف عن دعمه ثورة 2011؟ هل المطالبة المشروعة بحق المواطنة مبرّر للخوف من نتائج الإنتخابات؟ وما هو الدافع للاحتماء بالعسكر مقابل التضحية بالمدنية؟
2D3676F9-53B6-46BF-9C1B-2E5C7B04B36F
2D3676F9-53B6-46BF-9C1B-2E5C7B04B36F
محمد عبد الرحمن عريف

كاتب وباحث مصري في تاريخ العلاقات الدولية والسياسة الخارجية

محمد عبد الرحمن عريف