دفء وثلوج في "الجبل بيننا"

دفء وثلوج في "الجبل بيننا"

05 يناير 2018
+ الخط -
لم يعد المخرج السينمائي، هاني أبو أسعد، فلسطينيا فحسب، بل عالميا هوليووديا أيضا، بعد أن أنجز، أخيرا، فيلمه "الجبل بيننا" من بطولة كيت وينسليت وإدريس إلبا (بتكلفة 35 مليون دولار)، وقد اختارته شركة إنتاج عملاقة لهذا. وللحق، أبدع أبو أسعد، مع فريق التصوير الحاذق، في إخراج فيلم مشوّق ومثير، ونابهٍ، يتوفر على مشهدياتٍ بديعة، يعتني أساسا ليس فقط بتمسّك الإنسان بالحياة، عندما يتعرّض إلى أقسى الظروف والصعوبات، وإنما أيضا بالعواطف في دواخل الذات كيف تتشكّل، وكيف تتحرّك في جوانح النفس ولواعجها (ما هي اللواعج؟)، فإذا كان القلب ليس سوى عضلة، في بداية "الجبل بيننا"، بحسب الطبيب الجرّاح بن (إلبا) في حديثٍ له مع المصوّرة الصحافية أليكس (وينسليت)، فإن من يقول هذا الكلام أبله، بحسب بن نفسه في نهاية الفيلم، ذلك لأن الجبل الذي بين بطلي الفيلم (نجمَيْه) تهاوى، بعد ساعتين، مضى فيهما الفيلم إلى أجواء من التشويق والتوتّر، وإنْ ببطءٍ في الإيقاع أحيانا يسوّغه التنامي الحذر لمشاعر شخصي الفيلم الوحيديْن في المساحة الزمنية الأعرض في هذا العمل السينمائي الذي كان من أميز نتاجات 2017 عالمياً. 

رجل وامرأة بمزاجيْن يكادان يكونان متناقضيْن، تجمعهما مصادفةٌ في المطار عندما يتعسّر سفرهما، فيقعان على طائرةٍ صغيرةٍ خاصة، يتفقان على السفر فيها، وهو ما يكون. ثم في جبلٍ من الثلج، وفي منطقةٍ مكسّوةٍ ببياض الثلوج، يُصاب الطيار بسكتة قلبية ويموت، فتسقط الطائرة وتتحطم، ثم تمضي التفاصيل. لم يبق إلا الصحافية المتطلبة، كثيرة الأسئلة والاستضاحات، والطبيب الجرّاح بارد العقل والأحاسيس في ما يبدو، ومعهما الكلب الذي كان برفقة قائد الطائرة. ومن مفارقاتٍ كاشفةٍ أن هاني أبو أسعد يُخبر الزميل نديم جرجورة، في مقابلة معه نشرتها "العربي الجديد"، أنه أراد أن يموت الكلب أيضا، ليكون هذا حدثا دراميا له أهميته، غير أن الشركة المنتجة لم تُجز ذلك، لأن "الفئة الأساسية من المشاهدين لن توافق". ويعني هذا أن للسوق حساباتِه في الشغل الهوليوودي، بل في صنعة السينما كلها. كأن هاني أبو أسعد أراد انفراد البطليْن بنفسيهما أكثر، ومن دون أي مخلوقاتٍ معهما، ولو كان كلبا، في فضائهما الناشئ الذي بلا أحد، الذي بلا أشياء سوى الثلوج، وبلا مسارات تدل على اتجاهاتٍ إلى هناك أو هناك. كأنه أراد لوحدتهما، وهما يبحثان عن منجاتهما، عن بقائهما في الدنيا، أن تكون مطلقة، لكن وجود الكلب، حركته وركضه، بعينيْه الحائرتيْن، بذيله، بامتثاله للشخصيْن التائهيْن معه، من شأنه أن يكسر بعض الثبات والرتابة ربما، أو لأنه كلبٌ، فيوحي بالألفة (والعائلية؟) هناك، في المجتمعات التي يتقاطر الناس فيها إلى دور السينما، فيوفّرون لفيلم "الجبل بيننا" 25 مليون دولار في أميركا وحدها في أقل من شهر.
لكنها حدّوتة مستهلكة تلك التي تعتني برجل وامرأة يتصادفان، وتورّطهما ظروفٌ غير محسوبة ومفاجئة مع بعضهما، ثم يتسلّل دفء ما إلى كل منهما من كل منهما، وإنْ لكل واحدٍ ارتباطه الخاص. ما يفعله هاني أبو أسعد، التزاما بالرواية التي ينبني عليها الفيلم (كاتبها الأميركي تشارلز مارتن، 2010)، أنه ينجح، في استثماره طاقة التمثيل الخلاقة للنجمين، إدريس إلبا وكيت وينسليت، في تعيين مطارح الفضول والانجذاب الغافية في النفس، وأين ومتى.. في أجواء البرد الحاد، وندرة الطعام، والموت غير المستبعد، والخوف، والاستيحاش الذي يتم التحايل عليه ما أمكن. وحدهما شخصان في هذا كله، يحتاج كل منهما الآخر، إلا أنهما، أحيانا، يتنازعان، يتجادلان، يتماحكان، يتلصّصان على بعضهما. ولكنهما دائما منجذبان إلى إرادة التغلّب على ورطتهما الفادحة، وتوتّرهما مع خلو الطبيعة قدّامهما من الحياة، يجدان أنهما في حاجةٍ إلى اكتشاف نفسيهما، إلى معرفةٍ أوضح بينهما، فالفراغ الأبيض الثقيل والمديد لا بد أن تشغله حرارةٌ ما.
"ليس هناك سوانا".. هكذا يحدّث الاثنان بعضهما كثيرا، قبل أن يمضي الفيلم إلى مصادفاته التي تخلّصهما من حالهما ذاك، فينجوان، يعيشان، يخرجان إلى حياتهما السابقة، غير أن ما بعد جبال الخوف والقلق والوحشة الباردة تلك ليس كما قبلها، لم يعد القلب مجرّد عضلة، وإنما انفتحت فيه طاقةٌ ثاويةٌ، أظنّها التي قهرت كل ذلك الجمود في ثلوج الفيلم البهيج، للمخرج المُجيد هاني أبو أسعد، الفلسطيني الذي صار هوليوودياً أيضا.
358705DE-EDC9-4CED-A9C8-050C13BD6EE1
معن البياري
كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965. رئيس قسم الرأي في "العربي الجديد".