تركيا والطريق إلى "غصن الزيتون" في عفرين

تركيا والطريق إلى "غصن الزيتون" في عفرين

01 فبراير 2018

رفع العلم التركي على جبل برصايا قرب عفرين (28/1/2018/الأناضول)

+ الخط -
بدت عملية غصن الزيتون العسكرية التركية في مدينة عفرين السورية، وكأنها تختصر ليس فقط المشهد الحالي، وإنما المتغيرات في سورية منذ اندلاع الثورة، بداية من تواطؤ النظام مع حزب العمال الكردستاني، لطعن الثورة والالتفاف عليها، ثم رفض أميركا (باراك أوباما ودونالد ترامب) تسليح الجيش الحر، أو إقامة منطقة آمنة للاجئين والثوار، وتحولها فيما بعد لدعم تنظيم هذا الحزب ومتفرعاته، لكلفته السياسية الرخيصة، ولنهب الثروات السورية، وإبقاء خيار التقسيم حاضراً ولو على الورق وقابلاً للتنفيذ. ففي أيّ لحظة، وفي الوقت نفسه، عدم الصدام مع روسيا  وإيران، وإبقاء رجلهم، أو صبيّهم المريض بشار الأسد في السلطة. وقبل ذلك وبعده، التأكيد على حقيقة بقاء الدولة التركية وحدها إلى جانب الثورة السورية والشعب السوري وقواه الحية في السياق السياسي والعسكري، ثم نزوعها إلى الدفاع المباشر والاستباقي عن مصالحها، المتماهية إلى حد بعيد مع مصالح السوريين ببساطة، كون تركيا تفكر بعقل أكثري غير أقلوي. ولأنها جزء أصيل ومركزي من نسيج المنطقة، تاريخها وحاضرها ومستقبلها، وفيها حكومة مدنية ديمقراطية منتخبة، تستمد شرعيتها من شعبها، وتدافع بالتالي عن مصالحه وأمنه واستقراره، ومستعدة دائماً للجلوس أمامه في امتحان الصندوق والقبول بحكمه.
عفرين مدينة سورية مختلطة، سلمها النظام إلى حزب الاتحاد الديمقراطي (الكردي) السوري باكراً جداً 2012 في سياق طعن الثورة السورية. إخراج الأكراد من دائرة الثورة إلى دائرة الحياد، وحتى التواطؤ مع النظام، كما رأينا ونرى في الحسكة والشيخ مقصود، والأهم تمثّل بالضغط أو ابتزاز تركيا لوقف دعمها للثورة السورية، والمطالب المحقة والعادلة لهذه الثورة، وإعطاء عفرين إلى ذلك الحزب الكردي يماثل إعطاء مناطق حدودية مع العراق والأردن ولبنان لجبهة النصرة وتنظيم داعش، فيما بعد لزيادة الضغط الأمني على دول الجوار، وتخييرهم بين دعم النظام لاستعادة الاستقرار أو مواجهة الفوضى في أبعادها السياسية الأمنية الاقتصادية الاجتماعية، مع تدفق موجات اللاجئين الهاربين من جرائم النظام وبراميله المتفجرة.
أما حزب الاتحاد الديمقراطي (بي كاكا السوري) فيمثّل الجناح السوري لحزب العمال 
الكردستاني التركي الموسوم إرهابياً في تركيا والاتحاد الأوروبي وأميركا، ودول عديدة، وقادته في غالبيتهم العظمى من أكراد تركيا، لا يتحدثون الكردية ولا العربية، قرويون جاؤوا من جبال قنديل، معقل حزب العمال شمال العراق، كما قال ويقول دائماً رئيس إقليم كردستان العراق، مسعود البرزاني، وكما أقر هيثم مناع نفسه (قناة رداو 15 إبريل/ نيسان 2017)، وهو الذي كان يوما رئيس ما تسمى قوات سورية الديمقراطية، والاسم الحركي لبي كا كا السوري. وللمفارقة، هذا الاسم أيضاً من اختراع المبعوث الأميركي لمكافحة "داعش"، بيرتماكغورك الذي استعان عن سبق إصرار بإرهابيين موصوفين في سورية والعراق، في مواجهة إرهاب "داعش" في سياق استسهال مواجهة العرض، من دون المرض.
مع إطلاق النظام وحلفائه في العراق وحش "داعش" من أجل الوصول إلى معادلة الأسد أو التنظيم، قدّم "الاتحاد الديمقراطي" (الكردي) نفسه أداة أو عنصرا فعالا في المعركة ضد التنظيم. وهنا استخدمته إدارة أوباما أداة رخيصة بدلاً من الجيش الحر الذي رفض القبول بشروط واشنطن، بعدم محاربة الأسد، أصل المرض، والتركيز على عرض "داعش". وحشدت واشنطن وراءها العالم في معركة عين العرب كوباني (معظم سكانها ما زالوا لاجئين فى تركيا)، ورفضت التفاهم مع تركيا أو الاعتماد على الجيش الحر. وحتى بشأن البشمركة واستعدادهم لإرسال آلاف المقاتلين لتحرير المدينة، عاندت واشنطن، وأصرت على الاعتماد على "بي كاكا"، لمصالح ضيّقة وآنية ضمن استراتيجيتها لقتال "داعش" في سياق سياستها المنكفئة مع عدم ممانعة تسليم المنطقة للشرطي الإيراني، المتوتر، لملء الفراغ الناتج عن ذلك، شرط الإذعان والخضوع لخطوطها الحمر، ومنها عدم تهديد أمن إسرائيل، وعدم تهديد حرية الملاحة في بحار المنطقة ومضائقها.
تصرفت مليشيات الحزب كالغزاة والغرباء في معركتي منبج والرقة، المتشابهتين تماماً مع معركة الموصل، حيث تدمير المدن على يد الغرباء، وتشريد أهلها لتغيير التركيبة الديمغرافية، وممارسة التطهير العرقي، وذلك كله بحجة محاربة "داعش" والقضاء عليه.
وكان تنظيم "قوات سورية الديمقراطية" أيضاً أداة واشنطن لإبقاء خيار التقسيم حاضرا، ولو نظرياً كما السيطرة على ثروات السوريين في المناطق الغنية بالنفط والثروات الطبيعية، أو نهبها، خصوصا في شرق الفرات، مع بقاء نظام الأسد، ولو ضعيفاً نازفاً مهاناً، مع رفض دعم الثورة أو الدفع بانتصار الكتلة الأكثرية الثائرة في وجه النظام العصابة.
وتقدم مدينة تل رفعت المتاخمة لعفرين، هي الأخرى، أيضاً نموذجا أو فكرة عن طبيعة "بي كاكا السوري" أو حقيقته، حيث تم استغلال غارات الاحتلال الروسي في 2016، والأسلحة الأميركية، ودعم النظام اللوجستي الفج والعلني لاحتلال قرية عربية خالصة مع قرى أخرى محيطة بها، بينما كان الجيش الحر منشغلاً بقتال "داعش"، وهو الجهة الوحيدة التي تقاتل هذا التنظيم الإرهابي، كما النظام أصل المرض وسبب اندلاع الثورة.
وعمد التنظيم (بي كاكا السوري) كذلك إلى استنساخ ممارسات النظام المتضمنة التغيير 
الديمغرافي والتجنيد الإجباري والإخفاء القسري وابتزاز المواطنين مالياً، كما إقصاء أي صوت معارض لسياستهم الاستبدادية الشمولية، وخنقه وتغييبه. وبالتالي إيجاد كيان أو سلطة تشبه الأنظمة الشيوعية الساقطة، ولكن هذه المرة وللمفارقة بدعم أمبريالي أميركي، وعلى كل المستويات، حتى مع رفع الحزب شعاراته الشيوعية الجوفاء.
وعموما، لا يمثل الحزب الاتحادي الديمقراطي الأكراد بأي حال، وهو مستبد متسلط عليهم بالقوة الجبرية والدعم الخارجي، والأكراد أخوة للعرب والأتراك، وكانوا تاريخياً جزءا من الأكثرية الكبرى في الحوض العربي الإسلامي الممتد من ماليزيا إلى طنجة، ومنذ صلاح الدين إلى سعيد بيران وبديع الزمان النورسي وشكري القوتلي ومشعل تمو، لم يتعاط الأكراد بنفس أقلوي، وهم أصحاب مطالب محقة ومشروعة، ولكن ضمن القضية العادلة للشعب السوري، وليس مع أعدائه على اختلاف مسمياتهم وأشكالهم.
وقد استشعرت تركيا، من جهتها، الخطر منذ بداية الثورة، سواء من ممارسات النظام وجرائمه، ورفضه أي تساوق أو تجاوب مع مطالب الشعب المحقة والعادلة. كما استشعرت الخطر من "بي كاكا السوري" و"داعش"، وطالبت بإقامة مناطق آمنة محمية للاجئين والثوار، وواجهت لامبالاة من حلفائها، أو من يفترض أنهم حلفاؤها في حلف شمال الأطلسي (الناتو).
ومبكراً جداً، طلبت القيادة السياسية التركية من القيادة العسكرية وضع خطط للتدخل، وفرض المنطقة الآمنة بالقوة، لكنها قوبلت بالرفض والتلكؤ والتردد من بعض القادة العسكريين، حتى أن قائد القوات الخاصة السابق، سميح ترزي، يكاد يختصر القصة كلها. كان يفترض به أن يضع خططاً لفرض المنطقة الآمنة، وإجهاض مخططات "داعش" و"بي كاكا" والنظام لطعن الثورة وتركيا في بداياته الأولى منذ العام 2014، لكنه كان فى الحقيقة أحد قادة جماعة فتح الله غولن وأحد قادة الانقلاب الفاشل في 2016، وقتله الجندي عمر خالص دمير، ما مثّل أحد العوامل المهمة في إفشال الانقلاب، وبالتالي عودة القيادة العسكرية إلى وصاية السياسية المنتخبة، كما يجب أن يكون عليه الحال في أي دولة ديمقراطية.
كان إفشال محاولة الانقلاب نقطة مفصلية في تاريخ تركيا الحديث كله، داخلياً وخارجياً، وانعكس مباشرة على السياسة التركية في سورية، حيث باتت القيادة أكثر قدرةً على اتخاذ قراراتها وتنفيذها، فعمدت إلى المبادرة والتمرد على القيود والمحدّدات الأميركية، ووضع واشنطن تحت الأمر الواقع، مع تنفيذ عملية درع الفرات، بعد شهر من تجاوز الانقلاب، العملية التي كانت النموذج الناجح الوحيد في محاربة "داعش"، حيث لا تدمير للمدن، ولا تشريد لأهلها، ولا تطهير عرقيا، وقد أجهزت كذلك إلى حد كبير على فكرة إقامة كيان لـ "بي كاكا السوري"، يمتد على حدودها الجنوبية.
في هذا السياق، كانت عفرين الأمل الأخير للانفصاليين من أجل الربط مع الكيان الشوفيني 
الاستبدادي في شرق الفرات، وإيجاد منفذ له إلى البحر المتوسط غرباً، ما يعطيه أفضلية استراتيجية في الداخل والخارج. وهذا من أسباب معركة "غصن الزيتون" عفرين، إضافة طبعاً إلى موقعها الاستراتيجي المطل على الأراضي التركية، والذي كان أحد أسباب أن يسلمها النظام لـ "بي كاكا" لتهديد الأمن التركي وحياة المواطنين في ولايات هاتاي وكليس.
المهم، وكما في نموذج درع الفرات المقابل والمنافس لنموذج منبج وعين العرب والرقة والموصل، سيتم تحرير مدينة عفرين وقراها من محتليها ومستبديها. وبات الأمر مسألة وقت فقط منذ انطلاق عملية "غصن الزيتون"، وسيجري تعميم نموذج "درع الفرات" عليها، وعودة الحياة المدنية إلى طبيعتها في أبعادها وتجلياتها المختلفة، كما حصل في مثلث جرابلس الباب الراعي.
بعد ذلك، سيتم التوجه إلى مدينة منبج (غرب الفرات) التي تحتلها قوات سورية الديمقراطية، ويظهر فيها كذلك وجهه الاستبدادي القمعي البشع والبغيض، وهو أمر محسوم أيضاً، خصوصا مع عدم تنفيذ الوعود الأميركية لتركيا بانسحاب التنظيم منها. وأكثر من ذلك، يجري التفكير جدياً في تحرير مناطق أخرى شرق الفرات من قبضة التنظيم، مثل عين العرب كوباني، تل أبيض، على طريق إقامة منطقة آمنة على الحدود التركية السورية بطول 120 إلى 130 كلم مع عمق 30 كلم تمنع التقسيم فى سورية، أو تكريس الأمر الواقع، وتقضي في السياق على الفكرة الأميركية بإقامة جيش حدودي لتنظيم حزب الاتحاد الديمقراطي، يضغط على تركيا ويعزلها عن عمقها ومصالحها فى سورية والمنطقة.
وكما في "درع الفرات"، فإن عملية غصن الزيتون عفرين أثبتت، مرة أخرى، أن الجيش الحر قوة جدية موثوقة مهنية وفاعلة، ولا يمكن الاستغناء عنها، في مواجهة "داعش" أو ما تبقى منه، أو في الحفاظ على وحدة التراب السوري، وإجهاض المشاريع الانفصالية، تمهيداً للمشاركة الفاعلة في ترسيم مستقبل سورية.
وأكدت عملية "غصن الزيتون" – عفرين كذلك تخلي روسيا عن "بي كاكا السوري"، واعتباره أداة أميركية، لا يمكن التضحية بالعلاقات الاستراتيجية مع تركيا من أجله، وليس ذلك فقط، فإن واشنطن أيضاً تخلت عنه في عفرين، وستفعل ذلك مضطرة في منبج، وستمنعه من الوجود غرب الفرات، والتقوقع شرطيا في المناطق الشرقية التي تراها واشنطن حيويةً ومهمةً، لمصالحها الضيّقة في سورية والمنطقة.
عموماً، أكدت عملية غصن الزيتون - عفرين الدور التركي الإقليمي، وصعوبة تجاهل أنقرة في القضية السورية، أو المستجدات الإقليمية بشكل عام، كما أكدت ثقة القيادة التركية بنفسها على أعتاب عام 2019 الحاسم، ليس فقط لجهة اليقين من تحقيق أهداف العملية، وإنما بعدم التأثر سلباً في الحزمة الانتخابية المحلية الرئاسية والبرلمانية المقبلة في ظل التأييد الشعبي الجارف والحاسم للعملية، والثقة بقدرة القيادة المنتخبة على الدفاع عن المصالح التركية، والاستقرار الداخلي والإقليمى على حد سواء.