إنهاء داعش.. وأداء ترامب والسيسي

إنهاء داعش.. وأداء ترامب والسيسي

01 فبراير 2018
+ الخط -
مادّياً، أُصيب تنظيم داعش في مقْتل. وفكرياً، تعرّض إلى اهتزازاتٍ، دفعَت قسمًا مِن أنصاره إلى التراجُع، والنَّدم، وقسما آخر إلى التحوّل، أو التفكير في التحوّل إلى تنظيم القاعدة، لكنه، وهو الانفعاليّ بالتكوين، غالبا، واليائس، ولكن في ثوب المتيقِّن، كان قد استفادَ مِن حالة الظلم والاضطهاد، كما استفاد من نزوعٍ عالميٍّ نحو التطرُّف، ومن مفاعيل التديّن المُتعالي؛ فإذا كان العملُ على إنهائه جادًّا، فلا بدَّ من اختيار المعالجة، على القهر المادي فقط؛ حتى لا تنشأ بيئة مساعدة لظهور أشباه له جديدة، أو أشدّ؛ فقد كانت الهزيمةُ المريرة والمَذلِّة التي فُرِضت على ألمانيا بعد الحرب العالمية الأولى سببا قويا في استعادة قوَّتها، ولكن بصبغة أكثر عدائية. ومِن المُستبعَد أنْ تنفع الحلولُ المادية المُجرَّدة عن العدالة، أو الكرامة، في إخماد الروح، وفرض الاستسلام، لدى شعوب هذه المنطقة العربية، المشحونة بالأبعاد المعنوية والفكرية، تلك الروح التي وظَّفها "داعش" توظيفا سيِّئا، بالإضافة إلى توظيفه عواملَ مادية، وسياسية، وعقَديَّة، أو روحية، أخرى. وإنْ كان العربُ والمسلمون، في غالبيَّتهم العظمى، لم يرَوْا في معركة داعش معركةً لهم، ولا في "انتصاراتها"، أو هزيمتها هزيمةً لهم.
بالطبع، تلك المُغذِّيات التي ساعدت ذاك التنظيمَ على الوصول إلى حدِّ إعلانه دولةً في العراق والشام، ليست متفرّدة، ولا حتميّة، إذ لم تشهد كلُّ مناطق العالم العربي، أو الإسلامي، ازدهارا فكريًّا له، أو تنظيميًّا، مع أنَّ حالات الظلم والقهر قد تفُوق، أو على الأقل، لا تقلّ، في البلاد أو المناطق التي لم ينجح فيها عن التي أحرز فيها نجاحاتٍ ملموسة. إذ تبقى العواملُ الداخلية، 
وخصوصيةُ التكوين الفكري والوجداني، فضلا عن البِنى السياسية، يبقى لتلك العوامل أثرُها الكبير، فهو مثلا لم ينجح في فلسطين، إلا في نطاقٍ محدود، في قطاع غزة، وربما ساعدَه على ذلك مجاورةُ القطاع شبه جزيرة سيناء، فضلا عن حالة البؤس التي عانى منها الفلسطينيون في غزة، وبالذات منذ الحصار الذي اشتدّ بعد سيطرة حماس على السلطة فيه، صيف 2007.
وفي مصر كذلك، لم ينجح "داعش" نجاحا ملحوظا، إلا في شبه جزيرة سيناء؛ لخصوصيَّتها الجيوسياسية، والاجتماعية، فطرَفيَّتُها، وإهمالُ الدولة المصرية لها، أسهَما في استمرار ابتعادها عن تأثيرات المركز. وربما كان للعامل الديمغرافي، ونمط عيش سكَّانها الأقربِ إلى البداوة (بما تعنيه تلك الطبيعةُ مِن انخراط أقلّ في مؤسسات الدولة، وتعلُّق أضعف بمصالحها) الدورُ الحاسم في هذا الجنوح نحو التطرُّف والإرهاب؛ ذلك أنَّ الظلم والإهمال متوفِّر في القاهرة وسواها، لكنه لم يكن كافيا، حتى الآن، في إنتاج ظاهرة داعش، وإنْ كانت ظروف العلاقة بين الدولة والجماعات الإسلامية أسهمت في تحوّل قطاعاتٍ من أبناء تلك الجماعات إلى النهج الدموي، تلك الجماعات التي ازدهرت في ثمانينيَّات القرن الماضي، لم تكن بخطورة تنظيم داعش وعدوانيته، وإن كانت شبيهة بها، في أنَّها استجابت للعوامل السياسية للبحث عن تأويلات دينية، وفقهية، تُشْرِعن استحلالَ الدماء والأموال. ثم شهدت تلك الجماعاتُ مُراجعاتٍ أفضت، في النهاية، إلى اضمحلال ذاك النَّهج الذي لم يُسفِر عن نتائج عملية، سوى الثأر والتخبُّط، من دون أن يُحدث تغييرا سياسيا، فبعد اغتيال الرئيس المصري الأسبق، أنور السادات، جاء حسني مبارك.
بالطبع، ليس الحديث عن تنظيم داعش، بحدّ ذاته، بهذا الإطار الحرَكي، ولكن التخوّف يبقى دوما عن التمظهُرات التي سيتجلَّى فيها اليأسُ، أو الشعور بالقهر. وهي تمظهُرات تتنوّع، وقد تكون نووية التكوين، أو ضعيفة التنظيم والسيطرة، وقد تكون تلك الهزَّات الارتدادية غير فورية، وهو المُرجَّح، فهناك دورات للعنف، وحالات اختمار؛ لتُنتج تلك الحركات آثارا ملموسة، بعد الضربات التي شتّت التنظيم، وأذهبت مركزه، واخترقته استخباريا، وأضعفت مصادر تمويله، كما أضعفت، بالتأكيد، من تماسُكه الفكري.
كان بالإمكان، بعد هذه الجولة التي هَزمت، إلى حدٍّ بعيد، تلك الأطروحاتِ القائمة على التوحُّش أنْ يُعمَل على الدخول في مرحلة جديدة، سياسية اجتماعية، تَرْفِدُها معالجاتٌ فكرية تربوية، لكن هذه الرؤية لم تتحقَّق، إذا لم يتحقَّق نقيضُها. ولْنَضرب لذلك، مثلا، دوليا، في سياسة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، وعربيا، في مصر، وحاكمها، عبد الفتاح السيسي، والأوَّل تفاخر أمام منتدى دافوس باستعادة، تقريبا، كلّ الأراضي التي سيطر عليها "داعش" في سورية والعراق. والثاني يبالغ في إنجازاته الأمنية، ضدّها، على أبواب مرحلة أخرى يُمْعِنُ فيها بالتفرُّد والإقصاء، وبعد أنْ لم يُفلح في الأولى، حقيقةً، في مواجهة اختراقات خطيرة حقَّقها "داعش" في سيناء، فأمَّا ترامب فقد آثَر أنْ يتماهى في تعامُله مع فلسطين والقدس مع الرؤية الإسرائيلية المحتلة، من دون أن يُخفي أقطابٌ في إدارته، كما نائبه مايك بنس، أمامَ الكنيست، مثلا، الحمولاتِ الدينية في خطابه المزاوِد، حتى على أحزابٍ صهيونية، إذ وصفه معلِّقون إسرائيليون بأنه "الخطاب الأكثر صهيونية الذي أُلقي في الكنيست من سياسيٍّ أجنبيٍّ، حتى الآن"، ورآه بعضُهم الآخر"أقربَ إلى خطبة دينية حماسية، منها إلى خطابٍ سياسيٍّ لزعيم يتوخَّى عرْضَ برنامجٍ سياسي للسلام في الشرق الأوسط".
هذا الخطاب الذي يتوازى مع خطواتٍ تصعيدية ضدّ الفلسطينيين، كما في إنقاص واشنطن من الدعم الذي تقدِّمه لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) ليُفاقِم ذلك مِن أزمة اللاجئين، والفلسطينيين إجمالا، ثم تهديدها بقطع مزيد من المساعدات المالية التي تقدِّمها للسلطة الفلسطينية. واللافت هنا الصراحة في الابتزاز السياسي، على خلفيَّة رفْضِ السلطة العودةَ إلى المفاوضات برعايةٍ أميركية متفرِّدة، فترامب، وإدارتُه، يستكثر على الفلسطينيين مجرَّدَ الامتناع عن العودة إلى عملية تفاوضية عقيمة، ويريد منهم منْحَه غطاءً، يقوّضُ به ركائزَ تلك القضية، مع الاحتفاظ بها، شكلا، وإلزام الفلسطينيين بواجباتها، والتزاماتها، من دون أيّ أفق معقول.
وينطوي تعامُل ترامب هذا مع فلسطين على استهانة بمشاعر ملايين العرب والمسلمين، هذا فضلا عن تعامُله مع بعض الدول العربية والإسلامية، في إجراءات الدخول إلى الولايات المتحدة، ولا يساعد ذلك كله في تدشين مرحلة جديدة، مع العالم العربي، وفيه، تعتمد البناء، بعد الهدم.
وأمَّا عبد الفتاح السيسي الخائف مِن السماح بأبسط حقوق الشعب المصري، وهي انتخابات 
الرئاسة، فهو يمنع، وبعقلية تآمُرية، أنْ ينافسه أيُّ مرشَّح جِدّي، وهو بذلك يراكم، مع التردّي المَعيشي للمواطنين العاديِّين، والفشل الأمني، في سيناء، يراكم من مقادير الكبت والاحتقان، وهو بذلك يُجْهِز على الحياة السياسية في مصر، ويخنق الأصوات، إلا الأصوات الإعلامية التي تُبجِّله، وتُخوِّن كلَّ مَن ينتقده، كما كان أخيرا في الإجهاض العاجل، والخطف الحاسم لمحاولة رئيس أركان القوات المسلحة المصرية الأسبق، سامي عنان، منافسة السيسي، ومِن قَبْلِه الفريق أحمد شفيق.
ووجْهُ الربط بين ترامب والسيسي، وبين فلسطين ومصر، أنّ الرجلين، (مع تبايُن طبيعة النظام السياسي في الدولتين، ومدى استقلالية مؤسساتهما) يَصْدُران عن عقلية سطحية، ومعالجات تسطيحيَّة فَرْدانيَّة، وتتَّسم سياستُهما بعدوانية حادّة، ضد مَن يخالفُهما، حتى لو كانت وسائلَ إعلامٍ تمارس مهامَّها الطبيعية في تحرّي الخبر، وتمحيص الحقائق. وأمَّا المشترك بين فلسطين ومصر فهو الشعور بالإهانة، والاستهانة بالحقوق، في فلسطين ببعدُيها، العربي والإسلامي، ومصر بموقعية تأثيرها، باعتبارها نموذجاً تتطلَّع له الشعوبُ العربية، باهتمام، نحو مرحلة جديدة في الحكم والإدارة.
وللأسف، الظروف العالمية الراهنة التي تنهمك فيها الدولُ في معالجة أزماتها الداخلية، والاقتصادية في مقدمتها، وتتعاظم فيها الاعتباراتُ المصلحيَّةُ سريعةُ الآثار، والملموسةُ النتائج، هذه الظروف تدفع إلى تعاطٍ أبعَد ما يكون عن الحلول الاجتماعية. مستسهلةً المبالغةَ في الأسلحة العسكرية، أو الأمنية، والاقتصادية.