مبايعة السيسي

مبايعة السيسي

31 يناير 2018
+ الخط -
لا شيء تغير، فما أشبه الليلة بالبارحة! كل الأجواء في مصر المحروسة تنبئ بأن ما سيجري في شهر مارس/ آذار هو مبايعة للرئيس عبد الفتاح السيسي، وليس انتخابا، تماما كما كان يحصل في عهد الرئيس المخلوع حسني مبارك. الفرق الوحيد أن نظام الأخير كان واضحا وصريحا يسمّي الأشياء بمسمياتها. وحتى في الأنظمة الاستبدادية والقمعية في عهد صدام حسين في العراق، أو حافظ الأسد في سورية، كانت لها الشجاعة "الأدبية" لتسمي "الانتخابات" "استفتاءات"، وكانت تسمح بطباعة ورقة مكتوب عليها كلمة "لا"، على الرغم من أنها كانت مقتنعة بأن لا أحد سيجرؤ على استعمالها داخل مخدعه في تلك الأزمنة الغابرة، قبل اكتشاف تقنيات التجسس الحديثة التي تحبس أنفاس الناس، وتدوّن حركاتهم، وتسجل سكناتهم.
في آخر "انتخابات" نظمت في عهد المخلوع مبارك عام 2005، فسح نظامه المجال لعشرة أرانب سباق للدخول معه إلى حلبة السباق التي صممت ليكون هو الفائز الوحيد فيها. فصورة مصر الخارجية، والحفاظ على الحد الأدنى من أشكال الحياة السياسية، كانت تقتضي، من رئيس مصر آنذاك، أن يحرص على أن يكون الإخراج متقنا، عبر صناديق اقتراع "شفافة"، مع أن نتيجتها كانت محسومة مسبقا، ومنافسين مدربين على أداء أدوار "كومبارسات" حقيقيين، وأجواء منافسة مفتعلة، مثل نشاهدها في حلبات المصارعة الحرة التمثيلية.
أما نظام السيسي، فتدل تصرفاته القمعية والترهيبية ضد كل منافس محتمل له، على هشاشته 
من الداخل، لذلك يريد العودة إلى ما قبل 2005، إلى زمن "الاستفتاءات" محسومة النتائج بنسبة 99 % من المبايعين. ومبايعة السيسي بدأت حتى قبل أن تبدأ حفلة البيعة بهاشتاج "كلنا مع السيسي 2018"، ونص بيعةٍ يتداوله رواد المواقع الاجتماعية يقول: "أًقر أنا المواطن الذي تحمل صفحتي هذا الإقرار إني أويد وأرشح المواطن عبد الفتاح السيسي رئيسًا بكل فخر لرئاسة مصر الحبيبة لفترة ثانية، وهذا إقرار مني بذلك. إمضاء مواطن بيحب مصر".
لذلك، وأمام هذه "المبايعة" الفجة، وبعد القضاء على كل المنافسين المحتملين، كان ضروريا البحث عن أرنب سباق لحفظ آخر نقطة دم في وجه نظام لا يستحي. فتحول البحث عن منافس "كومبارس" للسيسي إلى نكتة، حتى في الإعلام المقرّب من النظام في مصر، لأن الكل داخل مصر وخارجها يدرك أن السيسي سيستمر في الحكم، وأن الانتخابات تمثيلية هزلية. ما يخيف نظام السيسي ليس وجود "منافسين" يعرف أنهم من أشد المؤيدين له، وإنما التصويت العقابي للأغلبية الصامتة الغاضبة الذي لا يمكن التحكم فيها. والطريقة التي استعملها النظام لإقصاء كل منافس جدّي للسيسي، وقطع الطريق أمامه، تنم عن وجود ارتباك كبير داخل صفوف النظام، تغذّيه أجواء الشك والريبة في داخل مؤسسات الحكم، من جيش وأجهزة أمنية وإعلام وقضاء.
تكشف انتخابات مصر المقبلة، والأجواء التي تسبقها، إلى أي حد أصبح النظام في مصر هشّا من الداخل، يخاف حتى من أقرب الناس إليه، ومن مؤيديه. فالنظام الذي يحكم قبضته الأمنية والعسكرية على البلاد قادر على تزوير الانتخابات لمرشحه، حتى لو تنافس معه مرشحون جديون، لكن ما أراد النظام تجنبه هي أجواء الحملة الانتخابية التي تسبق يوم التصويت، لأنها ستفسح المجال لانتقاد النظام القائم، والكشف عن عيوبه وأعطابه.
إحدى أهم آليات الحكم القمعي التي اعتمدها نظام السيسي، منذ انقلابه الدموي، هو التحكم في الإعلام الذي أصبح مواليا له، وإخراس كل الأصوات التي تفكّر باستقلالية، وليست بالضرورة معارضة له، أو إرغامها على النفي الاختياري، أو تغيير مواقفها ومبادئها وولاءاتها. لذلك، 
وكما جرى في انتخابات 2014 التي فاز فيها السيسي بنسبة 97% فلن نشهد نقاشات حرة على الهواء مباشرة، ولا برامج تقارع الأفكار فيما بينها، وإنما خطابات مبايعة طويلة ومملة وركيكة، مع مظاهر كثيرة تبعث على التنكيت والسخرية من الأساليب التي سيبدع المؤيدون المتملقون في ابتكارها، للتعبير عن مبايعتهم المرشح الوحيد.
كان رئيس مصر السابق المخلوع مبارك يقوم، في عهده، بحملة انتخابية، وكان يخرج إلى الناس في قراهم ومدنهم يشرح لهم "برنامجه"، أما السيسي فهو أول رئيس يخوض انتخابات بلا برنامج انتخابي، وبدون القيام بحملة انتخابية، ولو على سبيل التمويه والتمثيل. أجهز على كل مظاهر الحياة الديمقراطية في مصر، منذ وصوله إلى السلطة عبر انقلاب 3 يوليو/ تموز 2013، والآن يقضى على آخر مظاهر الحياة السياسية في مصر، ليكرس نفسه حاكما مستبدا.
ترشح السيسي وحيدا، أو مع منافسين "كومبارس"، لا يسيء إلى الديمقراطية التي اغتالها بانقلابه الدموي قبل خمس سنوات، عندما اعتقل أول رئيس مدني منتخب بطريقة ديمقراطية في تاريخ مصر، وزجّه وأتباعه في السجون، وإنما يسيء، أولا وأخيرا، إلى نفسه، ويجعل انتخابه مهزلة حقيقية يضحك منها العالم. وفي نهاية المطاف، يعمل السيسي على تكريس الطابع الاستبدادي لنظامه الذي لا يختلف عن الأنظمة الاستبدادية التي سبقته، مع فارق كبير، أن نظامه أكثر إجراما من كل الأنظمة التي حكمت مصر قبله، ولا محالة سيلقى أسوأ مصير، لن يختلف عن مصير كل الأنظمة المستبدة التي سبقته وانتهت، على الرغم من قوتها وجبروتها، نسيا منسيا في مزابل التاريخ.
D6ADA755-48E0-4859-B360-83AB4BBB3FDC
علي أنوزلا

صحافي وكاتب مغربي، مدير ورئيس تحرير موقع "لكم. كوم"، أسس وأدار تحرير عدة صحف مغربية، وحاصل على جائزة (قادة من أجل الديمقراطية) لعام 2014، والتي تمنحها منظمة (مشروع الديمقراطية في الشرق الأوسط POMED).