العرب اليوم.. نهاية سنة وبداية أخرى

العرب اليوم.. نهاية سنة وبداية أخرى

04 يناير 2018
+ الخط -
راكمت السنوات التي تلاحقت، بعد انفجارات 2011 في المشرق والمغرب العربيين، جملة من المواقف والخيارات السياسية التي ساهمت في إطلاق موجة من المواجهات مع أنظمة الاستبداد والفساد في مجتمعاتنا، إلا أنها لم تُسْعِف ببلوغ المرامي والأهداف، التي عبرت عنها شعاراتها. وعمّقت المآلات التي انتهى إليها بعضها كثيراً من إشكالات الواقع العربي.. حيث تحولت ميادين عمومية كثيرة إلى فضاءاتٍ للصراع الإثني والطائفي، وساد نوع من الخلط، ساهم في تقليص هيبة الدولة، وحوَّل بعض المجتمعات العربية إلى مجتمعات ما قبل تَكَوُّن الدولة، أي مجتمعات القبيلة والطائفة، مجتمعات الأعراق وأشجار النسب.
لا يتعلق الأمر في ما كنا بصدد توصيف بعض سماته العامة في مجتمعاتنا، بَقَدَرٍ أَعْمَى، ولا بمؤامرةٍ مدبَّرة ومرتَّبة، قَدْرَ ما يشير، في العمق، إلى غياب الثقافة السياسية التي نفترض أن تكون مواكبة لأفعالِ وحركة التَّحَرُّر والتحرير السياسيين، أفعال إسقاط أنظمة الاستبداد والفساد، وإعداد العُدَّة لبناء آليات الانتقال الديمقراطي السلمية والتاريخية، وهي الآليات التي كشفت عنها تجارب بلدانٍ أخرى، سبقتنا في مجال بناء المشروع الإصلاحي الديمقراطي. فقد أصبح واضحاً اليوم أن مجتمعاتنا ليست في حاجةٍ ماسّة إلى ثورة واحدة، إنها في حاجة إلى ثورتين، سياسية وثقافية، حيث تُمَكِّن أفعال الإسناد المتبادل بينهما من بناء التطلُّعات القائمة بينهما، وحيث يساهم غياب الواحد منهما في التقليل من النتائج المفترضة عند حصولهما معاً.
تَبَادَرت إلى أذهاننا، ونحن نفكر في الراهن العربي، أسئلة عديدة، منها: من هم العرب اليوم؟ وما هي آفاق مشروعهم في النهضة والتقدم؟ فوجدنا أنفسنا أمام قبائل وطوائف ومِلَلْ، وهم 
يُعَرِّفُون أنفسهم بمنطقٍ لا علاقة له بروح المكاسب التي تبلورت في تاريخهم طوال عقود القرن العشرين، فقد انهارت، في ظل ما يجري اليوم في مجتمعاتهم، منظومة القيم المرجعية الضابطة لتطلعات المشروع النهضوي، وحلت محلَّها منظومةٌ ماضويةٌ جامدة، تُرَوِّج مفرداتٍ وأنظمةً في الفكر، لا علاقة لها بعالمنا وتحوُّلاته الجارية.
ليس الحديث هنا عن "دولة الخلافة"، وباقي مسميات المنظمات الإرهابية ورموزها وحدها، بل تضاف إليها التسميات الأخرى، المتداولة في وصف الأنظمة والمجتمعات العربية، مِن قبيل أهل السنة والشيعة، وباقي فرق الإسلام الكلامي والسياسي والصوفي، ممزوجة بإيحاءاتها القادمة من أزمنة خلت، حيث يُواصل تَحَكُّم المرجعية التراثية، في حاضر عربي وكوني، أكثر تعقيداً مما يظن الذين يتصوَّرون أن الصراع السياسي الإقليمي في عالمنا محكومٌ بالعقائد والمِلَل القديمة.. وإذا كان مؤكَّدا أن العرب اليوم يواجهون سؤال الهُوِيَّة والتاريخ، فإنه ينبغي أن لا ننسى أنهم يواجهون، في الوقت نفسه، أسئلة العولمة والمستقبل.. وفي الأمرين معاً، يلزمنا عدم تغييب مكاسب الحاضر ومقتضيات المستقبل.
تتطلَّع مجتمعاتنا إلى التغيير، إلا أن ثقل الموروث التاريخي، وعدم قدرتنا على التخلص من 
أعبائه، يقف حائلاً بيننا وبين آفاق التغيير التي نروم بلوغها. نتأكد من هذا الأمر، عندما نلاحظ تشابه أحوالنا عبر السنوات، فلا فرق يُذْكَر بين نهاية سنة 2016 ونهاية هذه السنة، ولا فرق يستحق الذِّكر بين مطلع هذه السنة ومطلعي السنة التي قبلها والتي بعدها.. نفكّر في هذا، ونحن نَعِي أن زمن الثقافات وأنظمة الفكر والمجتمع في التاريخ لا يُقَاسُ بالمدى القصير، أي بالأشهر والسنوات، فتحوُّلاته تخضع لنظام المدى الزمني المتوسط والطويل.
المزعج في معضلات الراهن العربي، السياسية منها والثقافية، يتمثَّل في أن العرب اليوم بلا أفق واضح، يمكِّنهم من تجاوُز معضلاتهم التاريخية، إنهم بدون بوصَلَة جامعة، وبدون إطار مرجعي لأنظمة الإصلاح التي يتصوَّرون أنها يمكن أن تُقَدِّم برنامجاً قابلاً للتنفيذ، فقد غابت عنهم معطياتٌ كثيرة مُسَاعِدَة على بناء التصوُّرات والمواقف.
تضاعفت مؤشرات التفكّك في المجتمعات العربية، كما تضاعفت علامات التراجع وأمارات التبعية في أغلب البلدان العربية.. والغليان الحاصل في أكثر من بلد عربي ينفتح على ما يمكن أن يُكَرِّس مزيداً من الارتباك والاختلاط في النظر والعمل.. ودليلنا على ما نقول هو الانفراط الحاصل في المؤسسات، مؤسسات الدولة ومؤسسات العمل الجماعي والإقليمي العربية. وإذا أضيف إلى ذلك طابع الجمود الذي يُعَدُّ السمة الملازمة للأوضاع في مختلف البلدان العربية، أدركنا أن التَّرَبُّص الإقليمي والدولي بالثروة والجغرافية العربيين، مُتَوَاصَل ومرتفع الوتيرة، بحكم مآلاتنا التاريخية العامة في السنوات الأخيرة، وبحكم أن الخراب شَمَل أقطاراً كانت، إلى عهد قريب، عنواناً لمكاسب عديدة، حيث يُصبح تَدَارُك ما فات أمراً مُعَقَّداً.. لنجد أنفسنا في النهاية، أمام أنظمةٍ عاجزةٍ ونُخَبٍ سياسية أكثر عجزاً، فلا يبقى أمامنا إلا أن نتساءل مجدَّداً، ماذا عن العرب بعد نهاية السنة الجديدة؟

دلالات

C0DB4251-3777-48D1-B7F6-C33C00C7DAEB
كمال عبد اللطيف

محاضر في جامعات ومؤسسات بحث في المغرب وخارجه، عضو في لجان جوائز ثقافية في مراكز بحث وجامعات عربية. يساهم في الكتابة والتدريس الجامعي منذ السبعينيات، من مؤلفاته "درس العروي، في الدفاع عن الحداثة والتاريخ" و"الثورات العربية، تحديات جديدة ومعارك مرتقبة".