الاحتجاج في تونس.. لا ثورة ولا جياع

الاحتجاج في تونس.. لا ثورة ولا جياع

27 يناير 2018
+ الخط -
تكرّرت الاحتجاجات في تونس بعد الثورة، واشتدّ عنفها في هذا الشهر (يناير/ كانون الثاني 2018)، وكثر الحديث عن الضّرر الذي ستلحقه ميزانيّة الدولة (موازنة 2018) بالفقراء والعمّال والموظّفين. وخرج شباب في أحياء شعبيّة في العاصمة ومدنٍ داخل البلاد، مقنّعين في الليل، فنهبوا، وأتلفوا الأملاك العامّة والخاصّة. واستنتج كتّابٌ من هذه الأحداث أنّ احتجاجات الأحياء الشعبيّة قد تكون مقدّمة لثوراتِ جياعٍ، يدفعهم إليها الفقر والتهميش الاجتماعيّ. ويمكّن فحصُ ما جرى، بعدما عادت إلى الشارع حياتُه الطبيعيّة، من تبيّن خمسة أسباب قد تبرّر الاحتجاج المتكرّر في بعض المدن التونسيّة.
الأوّل، العطَبُ الاجتماعيُّ، وهو (كما بيّن باحثون اجتماعيّون) ضعفٌ في التحصيل العلميّ، وضيقٌ في العلاقات الاجتماعيّة، وعَوَزٌ اقتصاديّ، وهوانٌ عند الناس. ويُنتِج هذا العطبُ عند المهمّش استعدادًا للتمرّد على السلطة السياسيّة والقيم الاجتماعيّة، فتكوينُه العلميّ والمهنيّ لا يمكّنه من عمل قارّ يسدّ عائدُه حاجتَه، وعوَزُه الاقتصاديّ وضيقُ علاقاته يضيّقان أفقه ويخنقان طموحه. ويساهم هذا كله في عدم تقديره واحترامه، بل في ازدرائه واعتباره متقاعسًا عَالةً، ووَصْمِه بأنّه لا يكون إلّا مشرّدًا أو سارقًا أو مجرمًا. ويؤذي هذا التقدير الخاطئ نسبة كبيرة من التونسيّين، لا سيّما في الأحياء الشعبيّة والهوامش، ويُشْعِرهم بأنّ دولة الاستقلال لم تُنصفهم، فنسيت أجدادهم الذين شاركوا في التحرير، وأهملت مدنهم وأحياءهم ومدارسهم، وتركتهم فريسة البطالة والاستغلال المتوحّش. وكثيراً ما يخلط هؤلاء بين الدولة والنظام السياسيّ، فإذا ثاروا، خرّبوا مؤسّسات الدولة، لأنّها في اعتبارهم لا تمثّل إلّا النظام الفاسد، وليست إلّا أدواتٍ لقمع الفقراء وتأبيد سلطة الفاسدين وسطوتهم.
والسبب الثاني، منوالُ التغيير، فكلّ تغيير، في السياسة والاقتصاد والاجتماع، يقترن في وعي
الناس ووجدانهم بالاعتراض العنيف والانتفاض في الشارع، ولا سيّما في شهر يناير/ كانون الثاني. ففيه وقعت أحداثُ الخميس الأسود (26 يناير 1978)، وانتفاضةُ الخبز (3 يناير 1984)، وثورةُ الحريّة والكرامة (11 يناير 2011). وخرج التونسيّون في مسيرات كثيرة في الجامعات والمعاهد والشوارع رفضاً لسياسة النظام، أو تأييداً للقضايا العربيّة، أو تنديداً بمشاريع الاستعمار. وأهمّ جامع بين هذه الأحداث أنّ المطالبة والتغيير ليس لهما إلّا سبيل واحدة هي الرفض والتمرّد، فقد غدا التمرّد منوالاً يحدّد حركة الناس في مواجهة النظام. وهو أمر طبيعيّ في بلد يحكمه مستبدّ يسدّ أبواب الحوار، ويخنق الحريّات، ويؤبّد سياسته وبرامجه واستبداده. وما زال هذا المنوال مؤثّراً في وعي الناس، وساهمت السياسات الخاطئة بعد 2011 في بقائه. ولو كانت الحكومات في تونس جادّة حقّاً في صناعة ثقافة الديمقراطيّة، لوجّهت المواطنين إلى أفق أرحب من التمرّد، وهو أفق الحريّة والمشاركة السياسيّة والاعتراض المدنيّ والمطالبة السلميّة، فعملتْ على صناعة وعي جديد يتشكّل منه منوالُ تغييرٍ جديدٌ يقوم على الاعتراض الديمقراطيّ المدنيّ السلميّ، ويعوّض بالتدريج المنوال القديم الذي هو سلوكٌ عنيفٌ فرضه الاستبداد، وقد انقضى بعد الثورة نفْعُه. ولكنّ الحكومة تصرّ على سياسةٍ تُشعِر ناساً كثيرين بأنّ منوال التمرّد ما زال نافعاً.
والسبب الثالث، التقصيرُ الحكوميّ، فالوعود التي قُطعت للفقراء والمهمّشين انتهت صلاحيتها بإعلان نتائج الانتخابات، وازدادت الطبقة السياسيّة ثَراءً ومِراءً، وارتفع الدين العامّ، وهبطت قيمة الدينار، وازدادت المدن الداخليّة المحرومة حرماناً، وغلت الأسعار، وكثرت الجرائم، ونُسِي شهداء الثورة وجرحاها، ولم تنقطع المحسوبيّة، وفشا الفساد، وساء العمل الإداريّ في إدارات كثيرة. وانفتح للناس باب الإعلام الرقميّ، فلا يكاد يجري شيء سلبيّ يمكن نسبته إلى الحكومة إلّا شاع في مواقع التواصل الاجتماعيّ، وملأ الناسَ غضباً ويأساً، وأقنعهم بأنّ الرئاسة والحكومة مقصّرتان في توفير الحدّ الأدنى في العيش الكريم، أو عاجزتان عن ذلك. وقد أثبتت الإجراءات الحكوميّة أخيراً أنّ سياسة الترقيع لم تتغيّر (تدشين مركّب ثقافيّ في حيّ التضامن الشعبيّ، زيادة ضئيلة في منحة العائلات المعوزة، بطاقة علاج مجّاني للمعدمين..)، وما أبعد هذه الإجراءات عن مشروع إصلاح العطب الاجتماعيّ جذريّاً، ومهمّة تغيير وعي الناس وثقافتهم السياسيّة.
السبب الرابع، الصراعُ الإيديولوجيّ، وقد صار مزمناً، يستحضر فيه أصحابه حماستهم الإيديولوجيّة في الستّينات والسبعينات من القرن الماضي، ويقتاتون من أخطاء خصومهم، ويثبتون أنّ أحزاباً تونسيّة كثيرة وقفتْ سَبِيلُها، فليس لها في برامجها ومناهجها وأفكارها إلّا رواسبُ إيديولوجيا عتيقة، وليس أمامها، في أفق تفكيرها، إلّا معاداة الخصم السياسيّ وإسقاطه، ويُستبعد أن تستطيع هذه الأحزاب تجديد فكرها ومشاغلها، إلّا إذا جدّدت زعامتها، فقدّمت إلى إدارتها وقيادتها شباباً ديمقراطيّين يؤمنون بثقافة التعدّد لا بعقائد الإقصاء. وقد ساهم صراع الأحزاب بعد الثورة في إفساد برامج الحكومات، وتأليب بعض الناس على بعض، والتحريضِ على التمرّد، وممارستِه. وهذا خللٌ لا يمكن إصلاحه إلّا بتثبيت الديمقراطيّة وتوسيع المشاركة السياسيّة.
السبب الخامس، التدخّل الخارجيّ، وهو محاولات متكرّرة لإفشال التجربة التونسيّة، ومن أشهر أسلحتها الضغطُ السياسيّ والتهويلُ الإعلاميّ والاستدراجُ بالمال. وقد صار معروفاً اليوم أنّ دولاً كانت ترجو هزيمة الثورة وبقاء الاستبداد، فلمّا انتصرت، كَادَتْهَا، وحاربتْها بالإشاعات
والتآمر وبأساليب كثيرة فضحتها التقارير الإعلاميّة. وممّا أثار استنكارا شديدا، أخيرا، أنّ المستشارة في القنصليّة الفرنسيّة في تونس، مارتين فوترين، تمنّت أن يتقدّم عقيد من الجيش فيقود البلاد، وفُهم من تدوينتها أنّها تفضّل تدخّل الجيش لإنهاء الاحتجاجات وتولّي السلطة. ومن صور التدخّل التي تحدّثت عنها مواقع التواصل أنّ قناة إماراتيّة كانت تبثّ أحداث الاحتجاج مباشرة من المدن التونسيّة. وجرى بين الناس حديثٌ عن توزيع أموالٍ للتحريض على إدامة التمرّد. وقد قاوم جمهور الناس التدخّل الأجنبيّ بإجراءين سريعين: أوّلهما، التحذير من مخطّطات إفشال الثورة، فتبادلوا في "فيسبوك" تدوينات كثيرة وتحليلات وصورا ومقاطع فيديو تسمّي الدول التي تعمل على إنهاء التجربة الديمقراطيّة، وتوجّه المستخدمين إلى كيفيّة مواجهتها. والثاني، تشكيل لجان الأحياء، وهي جماعات من شباب الأحياء، تغلق الشوارع، وتحرس الأملاك العامّة والخاصّة، وتقبض على المجرمين، وتسلّمهم إلى الشرطة. وقد أصبح تشكيل هذه اللجان تقليدا منذ أيّام الثورة، وعلامةً على الحصانة الاجتماعيّة المدنيّة في مواجهة الاستبداد.
ساهمت هذه العوامل (وقد تجتمع كلّها، وقد يتخلّف بعضها) في اندلاع الاحتجاجات. فالعطبُ الاجتماعيّ ومنوالُ التغيير يجعلان كلَّ تونسيٍّ فقيرٍ مهمّشٍ أو عاطلٍ محتجّاً بالقوّة، فإذا تراكمت أخطاء الحكومة، وتحرّك التحريض الإيديولوجيّ، وامتدّت يد الأجنبيّ، صار المهمّش محتجّاً بالفعل. وعلى قدر شدّة العطب وقوّة التحريض والتآمر وضعْف الحصانة الاجتماعيّة، تكون قوّة الاحتجاج. ولكنْ ما كلُّ من خرج ونهب وسلب جائعاً، فربّما فعل ذلك كله بأجرٍ؛ وما كلُّ احتجاج في شهر يناير ثورةً، ولا يمكن تسمية ما جرى قبل أيّام ثورة ولا انتفاضة، لقلّة عدد المحتجّين بالنسبة إلى عدد السكّان، وخروجِهم مقنّعين في الليل، وانهماكِهم في السرقة والتخريب، وانحرافِهم عن مقصد التغيير، وهو الحريّة والكرامة، وخلوِّهم من الخطاب السياسيّ المعبّر عن مطالبهم. ولا تستطيعُ الخصومة الإيديولوجيّةُ واليدُ الأجنبيّة صناعة الاحتجاج القادر على التغيير، وإنْ هما استفزّتا المهمّشين بإبراز أخطاء الحكومة وتضخيم العطب الاجتماعيّ واستغلال رمزيّة شهر يناير. فالثورات لا تُسْتَنسخ، والاحتجاجُ ينقلبُ هرجاً وتخريباً إذا لم يكن بإرادة ذاتيّة، وكلّما أمعن المحتجّون في التخريب والنهب نقضوا الشعارات المرفوعة في الخطاب الإيديولوجيّ، وهدموا الأصل الذي بنوا عليه احتجاجهم.
A614EF74-C1F1-4E15-90EC-0B94242176DA
عبدالله جنوف

أستاذ بالجامعة التونسيّة. متخصّص في الإسلاميّات.