مصر.. درس السنوات السبع

مصر.. درس السنوات السبع

25 يناير 2018
+ الخط -
مرت سبع سنوات على خروج المصريين للمطالبة برحيل حسني مبارك، وبالعيش والحرية والعدالة الاجتماعية، ومازال بعضهم يتصارعون على دور شخصيات أو جماعات بعينها في إفشال تجربة التحول للديمقراطية، متناسين العوامل الأهم لإجهاضها، وفي مقدمتها علاقات القوة المتجذرة في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية المصرية، وفي النظامين الإقليمي والدولي.
مرت سبع سنوات، والصراعات لا تتوقف في وسائل الإعلام بشأن دور شخصيات بعينها، مثل محمد مرسي ومحمد البرادعي، وبعض شباب الثورة  وقادة المعارضة، أو عن دور جماعات كالإخوان المسلمين والسلفيين وشباب الثورة والأحزاب المدنية أو العلمانية، وجميعهم أفراد وجماعات محسوبة على المعارضة لم تجد إلا كل تهميش وقمع وتشويه على مدى عقود. ولا أحد ينكر أهمية الفكر والاستراتيجية والقيادة السياسية، أو الوعي بمتطلبات التغيير والاستعداد ببرامج ومؤسسات سياسية متماسكة، لإدارة عملية التحول الديمقراطي، وهي عملية استغرقت عقودا، وربما قرونا، في الدول التي نجحت في بناء ديمقراطيات مستقرة.
ولكن، لوضع الأمور في نصابها الصحيح، يجب البدء أولا بفهم التحول الديمقراطي المطلوب 
ومتطلباته، فالتحول الديمقراطي لا يعني عقد انتخابات حرة، وتولي حكومة منتخبة مقاليد الحكم، أو كتابة دستور بملامح ديمقراطية، وكلها إجراءات تعد من أهم ثمار الديمقراطية، لكنها لا تعبر عن جوهر عملية التحول الديمقراطي ذاتها، والتي تعني إعادة بناء علاقات القوة داخل الدول لضمان حماية النظام الديمقراطي، بما يعنيه من سيطرة مؤسسات منتخبة على الحكم، وتمكين إرادة المواطنين.
تتطلب عملية التحول الديمقراطي إعادة توزيع الثروة بما يضمن قدرا من المساواة بين المواطنين، وإعادة بناء السلطة السياسية للحد من نفوذ القوى والمؤسسات غير المنتخبة على صناعة القرار، كالجيوش ومؤسسات الأمن المختلفة والنخب السياسية والخارج، وإعادة بناء الثقافة السياسية نفسها بنشر قيم احترام القانون والحريات وحقوق الإنسان والثقة في الآخرين.
بالإضافة إلى المتطلبات الداخلية السابقة، يحتاج التحول الديمقراطي مواجهة خصومه الخارجيين، فالتغيير يولد من رحم الاستبداد، وفي مناطق يخيم عليها المستبدون المدعمون من الخارج. لذا يتطلب التحول الديمقراطي سياقا إقليميا ودوليا لحمايته ودعمه، كما فعلت أميركا مع دول أوروبا الغربية بعد الحرب العالمية الثانية، وكما فعلت أوروبا الغربية مع دولها الشرقية بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، حيث لم تكتف تلك الدول بتقديم المساعدات أو بالمطالبة بالإصلاح، بل أعدت برامج متكاملة لدمج تلك الدول في مشروع اقتصادي وسياسي وثقافي كبير قائم على الديمقراطية.
ولا يلتفت معنيون بالتغيير كثيرون في مصر إلى تلك المعاني والتعريفات، وربما يعتقدون أنها رفاهية فكرية، ويصرّون على الانشغال بالخلاف بشأن الأشخاص والجماعات، وهو تفكير نخبوي من ناحية، وانعزالي هروبي من ناحية أخرى. فمن يعتقدون أن أشخاصا أو جماعات بعينها قادرة على صناعة التاريخ يتجاهلون أن الديمقراطية نظام قائم على المشاركة المنظمة لملايين المواطنين في السياسة، بإجراءاتها المختلفة من انتخابات وتشكيل أحزاب وبناء مجتمع مدني قوي بمؤسساته المختلفة.
ومن ينشغلون بالصراع على الأشخاص والجماعات المعارضة يهربون، ولو لاشعوريا، من مواجهة أعباء التغيير الصعبة، خصوصا داخل المؤسسات الأمنية والنخب الاقتصادية الفاسدة والداعمين الدوليين للاستبداد، وهي القوى الأكثر تنظيما وشراسةً في الدفاع عن مصالحها، والأكثر احتكارا لوسائل الإعلام والمنابر السياسية المختلفة، والقدرة على عقاب من يتجرأ على نقدها. لذا، من السهل على أي مثقف معارض أن ينتقد نظراءه من معارضين أفرادا أو جماعات، ولكن نقد قوى النظام القديم، من أثرياء ومؤسسات أمنية وجماعات تقليدية وقوى خارجية، سيجلب عليه الأهوال.
وهذا يعني أن لانتفاضة المصريين في يناير/ كانون الثاني 2011 سياقا داخليا ودوليا ساعد على نجاحها، وحمل بذور فشلها، نظرا لعوامل هيكلية عصية على الإصلاح في الفترة الحالية. ومن دون الوعي بهذا السياق والتعامل معه، يستحيل التغيير، فهناك مؤسسات وقوى نافذة تحكمت في مسار انتفاضة يناير أكثر بكثير من قوى المعارضة، وما زالت تلك القوى النافذة بعيدةً عن رياح التغيير، ما ساهم في هزيمة انتفاضة يناير، والعودة إلى الوضع الراهن، ونتحدث عنها عن أربعة سياقات أساسية.
السياق الأول هو طبيعة القوى المسيطرة على المؤسسات الأمنية في مصر، من جيش وشرطة واستخبارات، وهي العمود الفقري للنظام وحاميته. والواضح أن شعور قطاع مهم من قادة الجيش بالتهميش في أواخر عهد مبارك دفعه إلى التخلي عنه في فبراير/ شباط 2011، من دون التخلي عن السلطة. لذا فعلوا كل ما في وسعهم للبقاء على رأسها بعد انتفاضة يناير حتى الانقلاب عليها في يوليو/ تموز 2013، ساعين إلى العودة إلى نظام شبيه بالسنوات الأولى لنظام 1952، والذي شهد دورا أكبر للمؤسسة الأمنية، وتأميماً متزايداً للحياة السياسية. وما حدث مع رئيس أركان الجيش المصري السابق، سامي عنان، واعتقاله بعد محاولته الترشح، مثال جيد عن مدى تمسك قادة الجيش الحاليين بالحكم السلطوي المباشر، ورفضهم التخلي عنه من خلال صناديق الاقتراع، ولو لأحد كبار قادتهم السابقين.
السياق الثاني هو قوى الرأسمالية المشوهة التي تكونت منذ الانفتاح الاقتصادي في عصر أنور السادات، وتحكمت في الحياة السياسية بشكل متزايد، وكونت شبكة علاقات هائلة يتداخل فيها الإعلامي بالسياسي والاقتصادي وسلطة العائلات الكبرى وكبار رجال البيروقراطية. وللأسف، عجزت انتفاضة يناير عن تغيير علاقات القوة الحاكمة لتلك النخب، وتركتها من دون تغيير يذكر.
السياق الثالث، هو السياق الثقافي نفسه، حيث تعاني مصر عجزًا واضحا في الثقافة 
الديمقراطية، والتي ما زالت قوى معارضة كثيرة تعتبرها ثقافة أجنبية مشكوكا فيها. والحديث هنا عن قيم أساسية، كحكم الشعب واحترام الحريات وحقوق الإنسان والتعدّدية السياسية، بالإضافة إلى احترام القانون، وجميعها قيم غير منتشرة في الأوساط الشعبية والجماهيرية، والتي قد تشارك في الانتخابات، لكنها لا تمارس تلك القيم في حياتها اليومية، وتفتقر للمستويات التعليمية والاقتصادية الضامنة للالتفاف حول القيم السابقة والدفاع عنها.
السياق الرابع، هو الدعم الخارجي، حيث تفيد تقارير دولية مختلفة عن وضع الديمقراطية حول العالم بأننا نعيش، منذ عقد، في فترة انحسار دولي للديمقراطية، بسبب جشع الرأسمالية الغربية وصعود اليمين العنصري في أوروبا والولايات المتحدة، وصعود رأسمالية الدول الاستبدادية في دول الشرق، كروسيا والصين، منافسا قويا للنموذج الديمقراطي. ويعد العالم العربي من أسوأ قلاع الاستبداد في العالم، حيث تتضافر عوامل مختلفة، كالاحتلال والنفط، في حماية الدول الاستبدادية في المنطقة، والتي أنفقت مليارات الدولارات لإطاحة مكتسبات الربيع العربي السياسية المحدودة، على الرغم من التضحيات الجماهيرية الهائلة.
من دون تغيير حقيقي يطاول السياقات الأربعة السابقة، والقوى الداعمة لها، وعلاقات القوة التي تربطها، يصعب تصور حدوث تحول حقيقي نحو الديمقراطية في مصر، من دون التقليل من أهمية القيادة السياسية، واستعداد المعارضين، فهي سياقات كبرى ومهيمنة منذ عقود، تحتاج عقودا إضافية لتغييرها. ولعل إدراك ذلك يقلل من درجة التناحر بين القوى السياسية المعارضة المختلفة، ويدفعها إلى تغيير خطابها وبرامجها السياسية، للتعامل بشكل أكثر هدوءا مع بعضها من ناحية، ومع خصومها من ناحية أخرى، فالتغيير الحقيقي لن يأتي قريبا أو بسهولة، وسيتطلب التعاون مع كثيرين من أنصاف المؤمنين به، وهم الغالبية العظمى من المواطنين في بلادٍ تربت على عيون الاستبداد.